قضايا وآراء

عازفون في موسم الغرق

حسام شاكر
1300x600
1300x600
تتسرّع بعض النخب بالترحيب بحدث كبير قبل محاولة فهمه أو تشخيصه بدقة. والعجيب أنها تباشر التصفيق حتى عندما تتراءى لها في المشهد مزالق محتملة وتلوح لناظريْها مخاطر واردة، وهذه قد تبدو لآخرين واضحة جلية. 

ثمة ما ورائيات متعددة يمكن تشخيصها بدرجة ما في الإنزال الأمريكي على المنطقة، ويكفي أنّ النُّخَب التي ترحِّب بقمة ترامب لا يسعها أكثر من محاولة تخمين حقيقة الموقف الذي يختمر في ظلالها بمعزل عن إدراكها لمجرياته بوضوح ودقة. 

قبل الانخراط في دواعي الإشادة والترحيب؛ كان يجدُر بأهل الرأي والنظر أن يسعوا إلى تقدير الموقف، كي تكون الإشادة مبررة لأولي الأبصار ومُقنعة لأولي الألباب.

معروف أنّ فتات النسق الإقليمي العربي تسبح في مدارات متفرقة الأهواء، ومن خيارات اصطياد السابحين في بحور التيه: إلقاء طُعم المخاوف والطموحات الوجودية، وطُعم المخاطر الإقليمية، وسيعلَقُ بعضهم في الصنارة طوعاً أو كرها.

تبدو إيران طُعماً مناسباً في هذه المرحلة، وهذا على مستوى الخطاب الأمريكي الجديد بشأنها و/أو على مستوى الفعل المحتمل أيضاً، وإن تم الإلقاء بورقتها مع الصنارة فلا يقطع ذلك بانتصار الضفة الأخرى من الإقليم. ثم يأتي السؤال: من ابتلع الطُعم، ومن وقَع اصطياده؟ إنها جدلية ضمن جدليات، وفرضية ضمن فرضيات، قد تعين المنشغلين بتأويل الحدث، إن رغبوا.

ثمة ذرائع أيضاً؛ مثل مكافحة التطرف، ومكافحة الإرهاب أيضاً، وكلاهما مؤهّلان لأن يقدحا الشرر ويقرعا النواقيس في اتجاهات متفرقة، إذ يختزنان قدرة الشحن بتأويلات ممتدة وتطبيقات فضفاضة؛ لا يكون معها التطرف هو التطرف أو الإرهاب هو الإرهاب، ولا تعسُّف في الجزم بأنها مفردات لا تعني ما يظهر منها على وجه المطابقة.

هل من سعي جاد لتقدير الموقف بدل الانشغال بالاستبشار بكلمات ودودة أطلقها ترامب في خطابه "العربي الإسلامي"؟ يتجاهل بعضهم أنّ تعبيرات الودّ نحو المسلمين باتت تقليداً في مثل هذه المواقف منذ أن شنّ بوش الابن حملاته الحربية في العالم الإسلامي، وأنها لا تمنع الإتيان بنقيضها في مواقف أخرى.

من أراد الإشادة بمفردات من بروتوكول التودد مدفوع الأجر السخيّ؛ فالأحرى به أن يدرك ما جاء في خطابات سابقة، كخطاب أوباما في جامعة القاهرة وخطابه في اسطنبول، وكلاهما بالمجّان بالمناسبة، وهما من الرصانة والتأصيل الشرعي واستحضار النصوص من الكتاب والسنّة ما جعلهما أشبه بخطبة جمعة. وفي المآلات أنّ الألفاظ البروتوكولية وعبارات التودّد الشكلية تمضي، ويبقى الواقع الذي تصوغه استراتيجيات جديرة بالتخمين على الأقل، قبل الاندفاع إلى الإشادة بما قد يكون طُعماً، أو بالانشغال بتمجيد ركلة في مباراة خاسرة.

لمن أمتعه خطاب سيد البيت الأبيض في القمة، نهدي حكاية، عن باخرة عظيمة، استحضرت على متنها فرقة للعزف، وظلّت الفرقة تواصل فعلها البهيج بإخلاص حتى لحظة الغرق الأخيرة. 

من المحتمل أنّ وصلة الإمتاع تلك حازت الفضل في تلطيف الشعور بالكارثة، حتى تسبّبت في التراخي عن الأخذ بأسباب النجاة. قد يُلتمس العُذر لمن قاموا بوظيفة العزف حسب التعليمات، فلعلّ الخشية قد تملّكتهم على لقمة العيش، فأشغلتهم عن سوء المصير.
0
التعليقات (0)

خبر عاجل