كتاب عربي 21

فنجان قهوة في المطار!*

عبد الرحمن يوسف
1300x600
1300x600
قهوة المطار لا تمنح الشارب ما يريده أبدا ...!

فهو بين مستعجل يريد اللحاق بطائرته، أو قلق بسبب حالة السفر، أو محتجز بسبب مشكلة ما ... ظروف الطقس ... أسباب أمنية ... الخ، لذلك من أندر النادر أن يمنحك فنجان المطار راحة تصبوا إليها.

من الناحية الفنية (القهوجية) ... غالبية المطارات لا تقدم القهوة كما ينبغي، وإن قدَّمَتْها ترى سعرها مبالغا فيه، ومن صفات الشارب الحكيم أنه "سخي في بقشيشه، مقتصد في إنفاقه" (راجع فصل درجات الشاربين في ديوان القهوة).

تغيّر موقفي من السفر كثيرا، ولكن ما زال ألمي من المطارات والطائرات والحقائب كما هو ... لم يتغير كثيرا، لقد أصبحت أستمتع بالسفر، وأستثمر وقتي الذي أقضيه مسافرا، وأتعلم من ترحالي، وأتثقف في تجوالي، أقرأ، وأكتب، ولكن حالة السفر نفسها، وفترة الانتقال من الإقامة إلى السفر، أو من سفر إلى سفر ... ما زالت تضغط عليَّ كحذاء جلدي ضيق، في رحلة مشي طويلة، في يوم صيفي حار، في بلد مرتفع الرطوبة، على أرض حجرية غير مستوية !

الساعة الآن الثالثة صباحا، وخير ما نبدأ به صباحنا الذي لم يأت بعد جرعة من "الاسبرسو".

وصل الفنجان ... للأسف بالكاد يحصل على علامة النجاح، إنه "اسبرسو" لا أكثر، لا يستحق أن يوصف بأي شيء، لا بالجودة، ولا الجمال، ولا الاعتدال، إنه فنجان لا يستحق أن تبذل جهدا في مدحه أو ذمه، جرعة كفايين في هيئة فنجان "اسبرسو" تُذكِّرُكَ بما حظيت به من جرعات جيدة من هذا المشروب – على مذهب وبضدها تتميَّزُ الأشياءُ –وتحرضك على أن تحصل على المزيد من طيّب القهوة في أقرب بلد ستزوره، تحفزك أن تحمد الله على كل جرعة "اسبرسو" متقنة تَذوَّقْتَهَا ولم تحمد الله عليها حمدا مباركا طيبا !

أنا في طريقي إلى وجهة أحبها، وفي خاطري امرأة تسكنني قبل أن أولد، وتستعمرني إلى أن أموت، تركلني من فوق الصراط إلى النار لتُكمِل هي طريقها إلى الجنة غير عابئة بي وبآلامي !

امرأة لا ترضى ... وأمنيتي أن ترضى ... بيني وبينها رابط أزلي كما بين القهوة والفنجان، وهي تتمنع لتوهم نفسها أن ما بيننا كما بين المشرق والمغرب، وما زالت تهرب وهي لا تدري أنني قدر، وأنها آتية لا ريب في هذا .

امتلأ هذا المقهى بالمسافرين ... وما زالت أمامي فسحة من وقت لفنجان من القهوة ... سأتحرك لمقهى آخر أقل ازدحاما، لعلي أجد قبسا من قهوة تركية.

وجدتها ... جلسة هادئة، إضاءة نموذجية للكتابة، ولا أحد يراني هناك، والقهوة التركية في هذا المقهى تستحق جائزة في الرداءة، ومن أعدَّها يستحق أن يُجلد خمسين جلدة تعزيرا، أما من قدمها فيستحق أن ينفى من الأرض!

هذه بالضبط الحالة النفسية التي أتناول بها فنجان القهوة في المطار ... ربما تكون القهوة سيئة، لكنها لا تستحق كل هذا الهجاء، ولكنها حالة السفر التي تحول الإنسان إلى كائن ضيق الصدر، قلق، متوتر، غاضب، متجهم، كئيب.

ازدحام المطارات مقرف ... المطارات الفارغة فيها مساحة أكبر للشجن، الشجن يحتاج إلى شيء من الفراغ، مساحة، فسحة، اكتظاظ المساحات بالبشر والأجهزة والمعدات يؤدي إلى القرف لا الشجن.

المطارات المزدحمة تصبح زنزانة امتلأت بالمساجين، يدوس القوي فيها الضعيف بلا رحمة.

المطارات الصغيرة أقل شراسة حتى إذا ازدحمت، أما المطارات الكبيرة حين تزدحم تصبح الجحيم عينه.

المطارات الكبيرة فيها مساحة الشجن ... شريطة أن لا تزدحم!

برغم كثرة سفري ما زلت مصمما على متابعة برنامج وثائقي في إحدى القنوات عن حوادث الطائرات!

أحيانا أتذكر بعض ما رأيته في هذا البرنامج الشائق، لكن ذلك لا يفزعني ... ما يفزعني هو أن يجلس إلى جواري شخص مصاب بفوبيا الطائرات، حدث ذلك منذ عدة شهور، وصرت بين نارين ... نار التوتر الذي يسببه لي هذا الرجل، ونار الإحراج من تغيير مقعدي، والحمد لله الذي ألهمه هو أن يغير مقعده.

أنظر في وجوه الناس ... أحاول أن أقرأ قصصهم، هذا الرجل الذي يُبرز ساعته مختال خمسين ألف دولار في يده ... هل أنت سعيد؟

لا يمكن أن تكون سعيدا يا سيدي ... أنت تحب هذه الساعة، ولكنك لا تستطيع أن تشتريها، لذلك اكتفيت بنسخة مقلدة ثمنها خمسمائة دولار على أقصى تقدير.

لا يمكن أن تكون سعيدا ... صحيح لأنه لا أحد يعلم حقيقة الساعة – بما في ذلك أنا – ولكن معطفك المقلد (وأنا أعلم أنه مقلد) هو الذي أثبت لي أن الساعة غير أصلية، ومن يشتري هذه الساعة (الأصلية) يستحيل أن يرتدي هذا المعطف (المقلد)!

أنت يا سيدتي ... هل أنت سعيدة؟

تشعرين بجمالك؟ أم تشعرين أن جمالك مغضوب عليه؟!

ما بال قسمات وجهك تبدو وكأنها شجرة في الشتاء، سقطت أوراقها، وكسا غصونها ثلج كثيف؟!

يداك غاضبتان ... تبحثان عن معالم الأنوثة بلمس الوجه والرقبة، لم أر كرامة من قبل تتحسس عناقيدها.

ذَكَّرْتِنِي بامرأتي التي ضَلَّتْ قصيدَتَها حتى كساها النثر، امرأتي التي تهرب مني عبثا، ومصيرها بين أحضاني ولو بعد حين.

الناس في المطارات حكايات متحركة ... قصص عابرة ... مُهَيَّؤون للبوح ... وجوههم تشرح آلامهم ... عيونهم تشرح آمالهم.

فنجان القهوة يزداد برودة، ويزداد رداءة على رداءة، وأنا أدون شجني غير مكترث بطعم البن، كسجين يأكل ما يلقيه إليه السجان لكي يبقى على قيد السفر، في انتظار امرأة تأتي ولا تأتي ... تقترب ولا تقترب ... بينها وبين القصيدة نصف دمعة، وبينها وبين الإقامة في الشعر وطن ونصف.

* جزء من "ديوان السفر"، تحت التجهيز.

عبد الرحمن يوسف
موقع إلكتروني: arahman.net
بريد إلكتروني: [email protected]

0
التعليقات (0)

خبر عاجل