قضايا وآراء

في الالتقاء الموضوعي بين السعودية-الوهابية و"العلمانية المتطرفة"

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
في كتابه "براديغما جديدة لفهم عالم اليوم"، يذهب عالم الاجتماع الفرنسي آلان تورين إلى أنّ فهم المجتمعات الغربية تحكمه الآن براديغما ثقافية، وهي البراديغما الأخيرة التي ورثت البراديغما السياسية (في الحداثة الأولى) والبراديغما الاقتصادية الاجتماعية (في الحداثة الثانية)، مما يستوجب -حسب هذا المفكر الفرنسي- استعمال البراديغما الثقافية لفهم السياقات الجديدة التي شكلتها القيم المهيمنة على تشكيل وعي الأفراد والجماعات. 

ولمّا كنا نعيش في عصر العولمة الذي يفرض فيه المركز الغربي"زمنه" و إشكالياته ومقارباته (وحلوله أيضا) على الهوامش والأطراف، فقد كان من الطبيعي أن يهيمن البراديغم الثقافي على النخبة التونسية  قبل الثورة وبعدها، وكان من الطبيعي أيضا أن يتضخم الصراع الثقافي بعد الثورة وبعد دخول الإسلاميين إلى مجال الفعل "القانوني" من جهة أولى (حزب التحرير، وخاصة حركة النهضة)، وإصرار جزء منهم (بابتهاج النخبة العلمانية وبتحريض خفي منها أحيانا عبر "الاستفزاز المجاني") على طرح العلاقة مع الدولة، في مستوى النفي المتبادل أو الصراع القابل لاتخاذ أشكال تبلغ حد المواجهة المفتوحة (السلفية الجهادية خاصة).

من منطلق "ثقافي" هووي  يعكس نماذج التدين أو طبيعة العلاقة بالمقدس والتمثلات الفردية والجماعية التي تحكمه، كان من المنطقي أن تتواجه الأطروحتان الإسلامية والعلمانية، بل كان من المنطقي أن تقع مواجهات وتجاذبات حتى داخل العائلة"الثقافية" نفسها (كأن يتصارع النهضوي والسلفي أو التحريري، أو يتواجه العلماني الاستئصالي مع العلماني البراغماتي)، ولكنّ ما يهمنا في هذا المقال هو تقديم بعض العناصر التي قد تصلح للإجابة عن السؤال التالي: كيف نفسر تلك التحالفات والتقاطعات التي حصلت بين "راعية الإسلام السني"(السعودية) وبين مكونات ما يُسمّى بـ"العائلة الديمقراطية " في تونس"، وبصورة أدق  ما هي "المصلحة الاستراتيجية" التي تدفع بالسعودية (والإمارات خاصة) إلى قيادة الثورات المضادة على ثورات كان أكبر مستفيد منها هو "إخوان" السعودية في المذهب؟ 

كان استقبال المخلوع بان علي في السعودية أول رسالة سلبية بعثت بها المملكة  للثورة التونسية، ولكنها لم تكن الرسالة الأخيرة. كان واضحا أنّ السعودية والإمارات التي استقبلت صهر المخلوع قد اختارتا التموضع بصورة مطلقة ونهائية في خانة الثورات المضادة داخل بلدان "الربيع العربي". ولا شك في أنّ هذا الخيار الاستراتيجي كان يستدعي خارطة للتحالفات السياسية على أساس المصلحة المشتركة في ضرب الانتقال الديمقراطي، والقضاء على أية شراكة ممكنة بين الإسلاميين والعلمانيين. ولم تكن السعودية والإمارات لتجدا أفضل من "العائلة الديمقراطية" التي هي تجمّع للقوى العلمانية المصرة على إدارة صراعها مع الإسلاميين، على أساس مفردات الصراع الوجودي (والنفي المتبادل)، لا على أساس مفردات الصراع السياسي والشراكة أو المعارضة "القانونية" (لا الانقلابية).

لقد اختارت السعودية (رغم أساس شرعيتها الديني ورغم مزاعمها التقوية) أن تتحالف مع القوى المعادية لما يُسمّى بالإسلام السياسي، (وكأن الوهابية نفسها في مرحلة الدولة لم تعد "إسلاما سياسيا"، أو ليست منظومة للحكم على أساس ديني)، وذهبت في هذا الخيار إلى نهاياته المنطقية: دعم أي انقلاب على الثورات وعلى نتائج صناديق الاقتراع حتى ولو كان انقلابا عسكريا كما حصل في مصر. ومثلما وجدت السعودية قوى خليجية مساندة للاستراتيجيات الانقلابية (خاصة الإمارات بقيادة ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد)، فإنها وجدت قوى معارضة أو معرقلة، خاصة قطر التي رفضت الاعتراف بالانقلاب المصري، وساندت الترويكا في تونس، وهو ما جعلها العدو الأول للقوى العلمانية المسنودة سعوديا وإماراتيا).

بحكم اختلاف الخيارات الاستراتيجية في التعامل مع ثورات الربيع العربي (وتحديدا مع الإسلام السياسي ذي الخلفية الإخوانية) وجدت السعودية نفسها في تناقض مطلق مع دولة قطر، وبالتالي مع كل حلفائها في دول الربيع العربي. ولعل ما يميز  الموقف القطري أنه لا يستمد  قوته من "المال" أو من"اللوبيات" أو "الجماعات الوظيفية" أو "العسكر" أو "الدولة العميقة" (مثل الموقف السعودي-الإماراتي)، بل من "الشرعية الانتخابية" ومن الإنصات الجيد لـ"حركة التاريخ" التي لا يمكن كبحها وتعطيل مسارها إلا إلى حين. 

يُظهر التحالف السعودي العلماني أنّ السلفية الوهابية ليست هي وحدها  التي تؤدي دور القاعدة  المتقدمة للدفاع عن العرش السعودي (وأساس شرعيته الدينية)، بل تشاركها في هذه الوظيفة كل القوى العلمانية المتطرفة التي تمثّل هي أيضا قاعدة متقدمة للدفاع عن القيادة السعودية-الوهابية للإسلام السُّني، (بضرب أية منافسة لهذه الزعامة عبر الإخوان أو غيرهم)، وهو ما يحقق مصلحة حيوية للقوى العلمانية التي تؤكد من خلال استفادتها المالية والإعلامية من هذه العلاقة البراغماتية (مع عدوها المفهومي وحليفها الموضوعي) استحالة رفع التناقض "الجوهري" و"النهائي" و"المطلق" بين "الإسلام" بمختلف تشكيلاته الإيديولوجية، وبين أسس الانتظام السياسي في الدولة الحديثة. 

في مستوى المسكوت عنه والمقموع في الخطابات الحداثوية ، من المؤكد أنّ النخبة "الانقلابوقراطية"  تُفضل التعامل"الأمني" مع ألف إسلامي كافر بالديمقراطية (يؤدي دور "الخارج المطلق" أو النقيض المطلق للمجموعة الوطنية، ويطرح نفسه  في مستوى البديل الشامل للمجتمع، سواء أكان ذلك بمنطق الانقلاب أم بمنطق الإرهاب)، على التعامل "السياسي" مع  إسلامي واحد (أو "مسلم ديمقراطي")  يقبل بالعمل الحزبي القانوني ويُظهر استعدادا مبدئيا (وإن كان هشا) للتصالح مع الفلسفة السياسية الحديثة، ويقبل بأن يكون شريكا لباقي الفاعلين الجماعيين من العلمانيين لا بديلا لهم. 

بالنسبة للنخب العلمانية، يرسّخ الإسلامي الكافر بالديمقراطية الصورة النمطية للإسلامي القابل للاختزال في مقاربتين أمنية ونفسية، ( فهو خطر اجتماعي ومرض نفسي)، كما يؤكد خرافة بعض المستشرقين التي ورثتها النخبة العلمانية بصورة غير واعية أحيانا (خرافة الاستثناء الإسلامي الذي يعتبر الاسلام ذاته -لا فقط تجليات الإسلام السياسي- متناقضا جوهريا وبصورة مطلقة مع الديمقراطية)، أما المتصالح مع الديمقراطية، فإنه سيربك كل هذه القوالب الفكرية الجاهزة  لأنه-رغم الخلفية الإيمانية أو ربما بفضل إدارة تلك الخلفية الإيمانية بطريقة مختلفة- سينافس النخب العلمانية في ملعبهم وبمفاهيمهم،  وسيهدم على وجه التراكم تلك الصورة النمطية التي تروّج لها عن الإسلام، والتي هي-في التحليل الأخير- مجرد أداة لمنع أي تعديل في بنية السلطة وفي آليات توزيع الثروات الرمزية والمادية، على أساس أكثر عدلا في المستويين الفئوي والجهوي).

ختاما، يمكننا أن نتحدث في مستوى الخطاب (أو الادعاء الذاتي) عن تناقض جذري بين السعودية-الوهابية والقوى العلمانية. لكنّ هذا التناقض سرعان ما تبدد  بحكم وحدة المصالح ووحدة "العدو": الديمقراطية وصناديق الاقتراع التي قد تُرخي قبضة القوى العلمانية الاستئصالية على الدولة-الأمة، وتهدد السطوة الوهابية على الفضاء السني باعتبار الوهابية هي النقيض الموضوعي للفلسفة السياسية الحديثة كلها.

إنّ العلمانيين (أو القوى "الانقلابية" والاستئصالية) هم "واقعيا" أقرب إلى السعودية-الوهابية من الإسلام السياسي ذي الخلفية الإخوانية، وذلك لعدة أسباب؛ فهناك أسباب تتعلق بالداخل السعودي (منع انبثاق أي نموذج إسلامي يحرج النموذج الوهابي، ويبين تهافت الكثير من بداهاته سواء في تدبر المتن الديني أو في تمثل الفلسفة السياسية الحديثة)، كما توجد أسباب تتعلق بالنفوذ الخارجي للمملكة (الخوف من زعزعة الهيمنة الوهابية على الخطاب الديني، ومن تقديم نموذج مختلف للتدين يكون أكثر تصالحا مع سياقاته الحديثة والمُعلمنة)، أما السبب الأهم فمن المرجح أن يكون هو الخيار الاستراتيجي الذي اتخذته المملكة (ومعها الإمارات ومصر وغيرهم)، بالاصطفاف وراء الإدارة الأمريكية الجديدة  وسياساتها الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية، والدفع بـ "دول الاعتدال" إلى التطبيع الشامل مع الكيان الصهيوني (وهو ما يُفسر اشتراط الحلف السعودي-الإماراتي على قطر وقف الدعم عن حركة حماس، رغم أنّ هذا الشرط  الإسرائيلي المصاغ باللغة العربية يُقوي التعاطف الشعبي مع قطر). 

لا شك في أن نجاح الخطة الغاية الصهيو-أمريكية هو ما أوجب على الحليف السعودي-الإماراتي التحرك على محورين متكاملين:  أولا ضرب العمق الاستراتيجي للثورات العربية ممثلا في قطر (الحصار) وفي تركيا من قبلها (محاولة الانقلاب الفاشلة)، ثانيا دعم الانقلاب المصري و"شرعنته" والتطبيع معه، مع محاصرة التجربة الوحيدة الناجحة في الثورات العربية ومحاولة إجهاضها، حتى لا تكون موضوعا للاقتداء أو "للتصدير"، بحيث تُهدد عروشا لا يقيمها إلا "التوقيع عن رب العالمين" لاستعباد الناس وتفقيرهم باسم الدين... لكن إلى حين.
التعليقات (1)
لطفي الرداوي
الأحد، 18-06-2017 02:51 ص
في الصميم مع كثير من العمق .تحليل يكاد يكون درس اكاديمي أو دراسة نخبوية .دمت