قضايا وآراء

رسالتي إلى القضاة الذين يخشون العسكر ولا يخشون الله

محمد سودان
1300x600
1300x600
بعد أن استولى العسكر على السلطة في مصر في 28 كانون الثاني/ يناير 2011، وبعد أن تنحى مبارك عن السلطة تحت ضغط دبابات الجيش المصري والضغط الشعبي الذي انتفض ضد ظلم العادلي وداخليته الفاسدة، وبالتالي نظام مبارك الديكتاتوري، كان موقف القضاء حينئذ متذبذبا، حتى اتضحت الأمور وخلصت السلطة للعسكر كاملة.

وقد صرح المستشار المحترم أحمد مكي، وزير العدل الأسبق، أن القضاء المصري لم يكن يوما مستقلا. ومن يريد أن يراجع تصريحه فليتابع البرامج التي تحدث فيها المستشار مكي بعد الانقلاب على يوتيوب.

شهد القضاء المصري بعد الانقلاب مفارقات عجيبة، بعد أن سيّس السيسي بعض الدوائر التي أنشأها من خلال اختيار بعض القضاة الذين أبدوا استعدادهم لذبح الإخوان المسلمين على منصات القضاء، وقام السيسي بتشكيل عدة دوائر أسماها دوائر الإرهاب، وهذا مسمى جديد على القضاء المصري، وكانت مهمة هذه الدوائر هي إقامة تمثيليات لمحاكمة الإخوان المسلمين ومعارضي الانقلاب؛ على أن يقرأ القضاة في نهاية هذه المحاكمات الهزلية أحكاما تُملى عليهم من قبل المجلس العسكري، وأحيانا كانت تأتيهم الأحكام قبيل جلسة إعلان الأحكام، وغالبا لا يُسمع لدفاع أو غيره. ومنهم من لا يستطيع حتى إجادة قراءة الأحكام ويتلعثم في قراءتها، بالطبع لأنه ربما لم يتسلمها إلا بعد أن صعد إلى منصة المحكمة، مع العلم، وحسب معلوماتي البسيطة في القانون، فإن أحكام المحاكم الجنائية لا تصدر إلا بعد توقيع كل أعضاء المحكمة الثلاثة، رئيس المحكمة وعضو يمين وعضو يسار.

إلى هذا الحد تسلل الهون والخزي إلى القضاء المصري، لكن كان لديّ بصيص من الأمل في محاكم النقض، وخاصة لأنني أجاور الكثير منهم فترة من الزمن بمنطقة تقسيم القضاة بالإسكندرية قبل خروجي من مصر آنفا، وتعرفت على العديد منهم، وما زلت أكن للكثير منهم كل الاحترام.

حتى أنه كانت أول سقطة لأحد دوائر محاكم النقض حينما أيدوا حكم الإعدام على الشهيد بإذن الله محمود رمضان، صاحب حادثة سقوط حمادة بدر من إحدى عمارات شارع المشير أحمد إسماعيل بسيدي جابر بالإسكندرية يوم 5 حزيران/ يونيو 2013، رغم وجود العديد من الفيديوهات التي تثبت بالدليل القاطع تبرئة محمود من قتل حمادة.

ثم بقينا مدة طويلة بعد هذا الحكم، وبعد أن تم إعدام محمود رمضان ظلما، نشهد قبول دوائر النقض لكل طعون أحكام الإعدام والمؤبد التي كانت تصدر كل أسبوع وكأنه مهرجان ومسابقات بين المحاكم والقضاة على إصدار أحكام الإعدام، لدرجة أننا شاهدنا أحكام إعدام بالجملة على 547 بريئا، ثم محكمة أخرى تصدر في جلسة واحدة حكما بإعدام 628 شخصا. وتوالت مسابقات إصدار أحكام الإعدام وكأنها منافسات على إرضاء السيسي وعصبة العسكر لنيل شرف الخزي والعار وخيانة الله ورسوله. كيف يعود هؤلاء القضاة إلى أهليهم بعد أن يصدروا أحكاما بإعدام نفس بريئة بغير ذنب، وأقصى ما يقوله لنفسه ولمن حوله ليبرر ظلمه "أنني أحكم بناء على ما بين يدي من أوراق"؟ يحاول أن يجد لنفسه مبررا لما اقترفه من كبيرة لن تُنجيه من نار جهنم.

ثم تمكن السيسي من رقاب بعض قضاة النقض، حتى تركوا شرف المهنة والأمانة والحكم بين الناس بالعدل وأسقطوا قسمهم وأوامر الله عز وجل في كتابه "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ، إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعا بَصِيرا"، وأطاعوا الطاغوت الأكبر وحكموا بين الناس بالظلم ولم يخشوا الله، بل خشوا السيسي وزبانيته وخنعوا له؛ وتوالت سقطات قضاة النقض بتأييد أحكام الإعدام والمؤبد وغيرها وهم يعلمون تمام العلم أنهم أيدوا أحكام الإعدام ظلما وافتراء.

وكنت قد تحدثت مع بعض القضاة عن هذه الكوارث التي أصابت القضاء المصري، والذي أصبح أضحوكة القضاء في العالم، فقال إن عدد القضاة الذين استخدمهم السيسي عدد ضئيل لا يتعدى بضع العشرات في دوائر الجنايات والنقض، وكرر ذلك المستشار المحترم وليد شرابي في أحد البرامج التلفزيونية، إلى جانب غيره من القضاة الشرفاء الذين آثروا أن يستقيلوا أو يخرجوا فارين بدينهم وشرفهم من مصر، وتم طردهم وإقالتهم من المنظومة القضائية.

لكنني أقول للقضاة الشرفاء الذين رفضوا أن ينضموا إلى هذه الحفنة من القضاة الذين باعوا دينهم بدنيا غيرهم، وقبلوا أن يكونوا مطية لسفاح يقتلون الناس ويعذبونهم ويحبسونهم باسم القانون، والقانون منهم براء: أنتم فعلا تظنون أنكم لم تنضموا إلى حفنة الظلمة الذين يحكمون على الناس بالباطل ظلما وعدوانا لكنكم لم تغضبوا لله غضبة، ولم تعلنوا رفضكم لهذه الأحكام الجائرة بل آثرتم السلامة والسكوت عن هذه المظالم، أذكركم جميعا بأنه "الساكت عن الحق شيطان أخرس". لئن ظننتم أنكم في منجاة من هذه الجرائم، فأنتم تظلمون أنفسكم، وأن خنوعكم هذا هو الذي جعل السيسي وعصبته يمتطون ضعاف الإيمان من القضاة بسهولة، أي أنكم شركاء في هذه الجرائم التي تحدث كل يوم داخل قاعات المحاكم الجنائية ومؤخرا محكمة النقض.

طوبى لمن استقال وأعلن رفضه التام لهذه المنظومة الظالمة من القضاء المصري الذي سقط في الوحل سقطة لن ينساها لهم التاريخ ولا الأجيال، وكان أولى لهم بأن تُقام عليهم مذابح العسكر وأن يموتوا شرفاء أو يُطردوا من هذه المنظومة العبثية الفاشية، بدلا من القبول في الاستمرار نظير حفنة قروش لن تنجيهم من انتقام الله في الدنيا والآخرة.

"وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ، إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ".
التعليقات (0)