كتاب عربي 21

السقوط العمودي في "الأدب" الإعلامي (2)

جعفر عباس
1300x600
1300x600
قلت في مقالي السابق بالعنوان أعلاه، إن المقصود بكلمة "أدب" هنا، هو حسن اللفظ والسيرة والسلوك، وبالتالي، فإن العنوان اتهام صريح بأن الإعلام العربي، خاصة المرئي منه، صار له فرسان يمتطون حميرا عرجاء، ويبرطعون ويرفسون على الشاشات، وأفواههم تنفث البذاءات.
         
وعرفت التلفزة العربية سوء الأدب بظهور البث الفضائي، عندما تخصصت قنوات في مجالي الغناء والرقص، فيكون فيها برنامج حواري حول هذا المطرب أو تلك، ويعقبه فاصل غنائي، ثم فاصل إعلاني لا تعرف هل المقصود منه الترويج لسلعة ما، أم للفتيات اللواتي يمارسن الغنج والدلال خلاله.

والغريب في الأمر، أن التلفزة العربية عملت على استقطاب المشاهدين بمخاطبة الغرائز الجنسية، في وقت صارت فيه السينما المصرية نظيفة من المشاهد التي تخدش الحياء العام (لم استخدم عبارة "السينما العربية" المتداولة في كل الكتابات، لأنها غير دقيقة فإلى يومنا هذا فإن 99.853 في المئة من الأفلام الناطقة بالعربية مصرية).

حتى منتصف السبعينيات كانت السينما المصرية -كما اكتشفنا لاحقا بعد زيارة مصر مرات عديدة- تقدم صورة زائفة، بل ومشوهة، عن المجتمع المصري، لأن وقائع معظمها كانت تعطي الانطباع بأن المصريين أوروبيون يقيمون البارتيات (جمع بارتي، وهي الكلمة التي يطلقها الناطقون بالعربيزية على ما نسميه نحن العوام "حفلة").

وخلال البارتي، كانت تتردد على أفواه رجال يرتدون الأزياء الإفرنجية الفاخرة عبارة: تسمحي لي بالرقصة دي، مخاطبين هذه الحسناء أو تلك، أو أديني شمبانيا.

وكنا ونحن صبية نتسلل الى دور السينما دون علم أولياء أمورنا، نحسب أن المشروب المطلوب اسمه شماميا، وأنه عصير الشمام، ثم كبرنا قليلا، واستنتجنا أن الشماميا تلك خمر، ليس لأن من كانوا يرشفونها بتؤدة وأناة كانوا يخطرفون كما يفعل السكارى، بل لأن شرب الشماميا اقترن بالرقص البطيء، حيث يلتحم رجل وامرأة ويتهاديان في هدوء، يجعلك توقن بأن الأمر لا يتعلق بالرقص.

وكانت أفلام المخرج الراحل حسن الإمام متخصصة في حشر الغناء والرقص "حبس كبس"، أي قسرا بما لا يتسق مع حدوتة الفيلم، بافتراض أن أفلامه كانت قائمة على حدوتة معينة، وهكذا فهمنا كيف جاءت تسمية الرقص الذي ترتدي فيه الراقصة هلاهيل ذات فتحات تهوية كبيرة وكثيرة بـ"الشرقي".

لأن وصفه بـ"العربي" كان سيقود إلى حملات استنكار عارمة من العرب العاربة، وحتى المستنسخة (الذين تم ضمهم إلى الجامعة العربية، ويحضر قادتها القمم العربية، ويضعون سماعات على آذانهم ليفهموا من المترجمين ماذا يقول نظراؤهم الناطقون بالعربية)، فالرقص الشرقي، وكما قلت مرارا في مقالاتي، تعبير رأسي عن ممارسات ورغبات أفقية.

وكان أغرب ما في الأفلام المصرية القديمة تفشي البوسات فيها، وعلى محدودية الأفلام التي شارك فيها، فقد أشبع المطرب الراحل عبد الحليم حافظ الممثلة سعاد حسني التي رحلت عن الدنيا في ملابسات مريبة، قبلات في فلمين فقط تكفي لعشرات الأفلام!

وسبحان الله، ما أن بدأت مصر تنتج أفلاما ذات محتوى رصين، وبها حبكات درامية مقْنعة، حتى اختفت مشاهد البوس الوبائي، وحشو الرقصات، وصرنا نرى المصريين يأكلون الفول والكشري والكباب، بينما كنا نسمع في الأفلام القديمة أطعمة ومشروبات ذات أسماء عجيبة.

وما زلت إلى يومنا هذا لا أعرف ما هو الـ"مارون جلاسيه"، وهو في ما يبدو شيء شديد الحلاوة، لأننا ياما سمعنا الممثلين يشبهون الفتاة الجميلة بقطعة مارون جلاسيه (يا خوفي من أن تكون شيئا مخيبا للظن، كما الجاتو الذي سمعت عنه كثيرا في الأفلام، وظللت أدعو الله أن يمد في أيامي حتى أتذوقه، ثم عرفت أنني أخذت كفايتي منه منذ سن باكرة، ولك أن تتخيل ذهولي عندما اكتشفت أن هذا المسمى ما هو إلا شرائح من الكعك الهش المدهون بمواد مريبة تضفي عليها بريقا زائفا).
         
والذهاب إلى دور السينما أمر اختياري، وهناك ملايين العرب والعجم ما زالوا أحياء عند ربهم يرزقون، ولم يدخلوا دار عرض سينمائي قط، ولكن التلفزيون صار من الضروريات في كل البيوت، ولا يهمني هنا أن الكثير من الشبكات التلفزيونية العربية، تعمد لشد المشاهدين بذوات الثدي (استخدام العبارة هنا مجازيٌ)، وأشباه الرجال ولا رجال، فمتابعة ما يصدر عن تلك الشبكات اختياري، ومعظم البيوت التي تقوم على قواعد التربية السليمة المتفق عليها، تحظر على أفرادها مجرد الاقتراب منها.

ولكن ماذا تفعل في قنوات تطرح نفسها منابر لتناول القضايا العامة، المتعلقة بمعاش الناس وساس يسوس، فإذا بها سوس ينخر في القيم، وسم غير مدسوس، وليس من العسف القول بأنها قنوات وشبكات تتغذى بأنابيب الصرف الصحي.

وينسى من يقذفون آذاننا بحمم من الشتائم والألفاظ التي تقشعر لها الرأس الصلعاء، أن معمر القذافي كان رائدا في مجال صرف البذاءات، ثم جاء يوم اضطر فيه إلى اللجوء الى أحد أنابيب الصرف الصحي الذي كان ينفث محتوياته شرقا وغربا، فكانت القاضية.

وكما تدين تدان!
التعليقات (0)