قضايا وآراء

تحت خط (الأخلاق)

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
أن يكون في الحياة سفلة ومنحطين وأوغاد فهو الشيء نفسه الذي يساوي وجود أشراف وكرام ونبلاء، هذه هي الحياة باختبارها وتكليفها وأمانتها وحرية المشيئة التي أودعها الخالق سبحانه في النفس الإنسانية تتحرك في هذا المجال الفسيح وتأخذ بصاحبها إلى ما اختاره. وطبيعي أيضا وفق كل ذلك وغيره أن تكون للحرية فلسفة وفكر يؤصل ويقعد ويشرح ويطرح زوايا النظر حول كل ذلك وغيره. وطبيعي أيضا أن يكون للأخلاق تنظيرها وتفسيرها، وإن كنت أميل إلى أن الإنسان في ذلك يتبع فطرته أكثر مما يتبع عقله وبالفعل الفطرة أهدى من العقل كما قال روسو. 

 لكن، من غير الطبيعي أن يكون للانحطاط ومخرجاته وللسفالة ومنتجاتها فلسفة وتنظير! لك أن تتخيل أن لهذه الفلسفة فلاسفة، ولهذا التنظير منظرون، وما أكثر هؤلاء الذين يدافعون عن سفالتهم ووقاحتهم إلى حد أنهم يجعلون منها فلسفتهم الأثيرة في الحياة. والسفالة في حد ذاتها أمر كريه وقبيح ومرفوض، لكن أن تكون للسفالة فلسفة فهو بعينه الأمر الذي يسبب الحيرة والدهشة لأننا نكون أمام موقف غاية في السقوط  .

والتاريخ  _والحاضر أيضا _ مليء بنماذج كثيرة تفلسف للسفالة والانحطاط، وتدافع عن القبح والرذيلة وسوء الخلق، وتبحث لهم عن أسباب ومبررات. نابليون بونابرت كان أحد هؤلاء الذين توصلوا إلى هذه الفلسفة حين قال لعدد من المحيطين به إن (الشرفاء لا يصلحون لشيء)هذه العبارة العجيبة التي قالها نابليون الذي عاش حياة مليئة بالتجارب الصعبة والقاسية تسهل علينا فهم المجتمعات المضطربة المفككة التي تنتشر فيها السفالة حيث يفشل الشرفاء في تحقيق أهدافهم إذا ما اعتمدوا فقط على مواثيق الشرف وأخلاقياته.

للأديب الفرنسي بلزاك (1799-1850) رواية رائعة تقدم لنا صور السفلة والمنحطين في المجتمعات، الرواية اسمها (الأب جوريو) وهي مشهورة جدا وتكاد تكون علامة على إنتاج بلزاك الذي كتب أكثر من مائتي رواية وقصة.

 يصف بلزاك في هذه الرواية هؤلاء الذين يحاولون تجميل القبح وتزيين الشر والذين لا يشعرون بالسعادة والقوة إلا إذا تحققت على جثث الآخرين. اسمع مثلا لـ(فوتوران) أحد أبطال الرواية وهو ينصح الشاب الطموح (راستنياك) راسما ومخططا له طريق النجاح كما يراه له (إني أرى على جبينك كلمة قرأتها بوضوح هي الوصول والوصول بأي ثمن. برافو إنك عملاق تلائمني. أعلم أنه ليست هناك مبادئ، هناك أحداث. ليست هناك قوانين،هناك ظروف، والرجل الناجح هو من يحتضن الأحداث والظروف لكي يسيطر عليها وينتفع بها. انس المبادئ والقوانين) هكذا كما يقول المصريون من الآخر، ولعل كلمة (انس) الرائجة في عامية المصريين وبينهم تشير إلى هذا الذي ينصح بنسيانه .

حين فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل عام 1988 وصفته وسائل الإعلام الأجنبية بأنه (بلزاك مصر) يعني روائي ينتمي للمدرسة الواقعية، ولم أتبين دقة هذا الوصف إلا عندما قرأت رواية (القاهرة الجديدة) إذ ستسمع على لسان (محجوب عبد الدايم) كلاما يشابه تماما كلام (فوتوران)عن تبرير السفالة والانحطاط، بل وتزيينهم والحض عليهم. 

(نيتشة) الفيلسوف الألماني المجنون وأستاذ هتلر، له في مبررات السفالة والشراسة تلال من الأقاويل يبرر بها الانحطاط والشراسة والانتشاء برائحة الدم ولونه (أنا لا أنصحك بأن تعمل أنا أنصحك بأن تقاتل أنا لا أنصحك بالسلام بل أنصحك بالنصر).

سيكون علينا أن نتعامل مع واقع اجتماعي مرعب ومخيف كنتيجة لتلك (الحالة الخبيثة). 

أخطر مهالك المجتمعات واضمحلالها عندما تصبح السفالات والوقاحات جريئة في الدفاع عن نفسها وتبرير وجودها وتجميل وجهها فذاك إيذانا بخراب عميم يقف على عتبات المدن والبلدان والبيوت أيضا، والحل الصحيح أمام هذه الكارثة المروعة أن نفضحها ونعريها ونكشفها ونكشف ما فيها من انحراف وسقوط وتزوير وتزييف، وألا ننخدع بمظاهر القوة التي قد تبدو فيها، ولا بالثقة والتباهي الذي يكون معها، ولا بما تحققه من نجاح في الاعتداء على الآخرين والبغي عليهم. 

هذه (الحالة الخبيثة) تظهر غالبا في المجتمعات التي تمر بنفس الظروف التي تمر بها مجتمعاتنا الآن، حيث الاضطراب والانقسام وفقدان البوصلة وعلامات الطريق.

ولنذكر أن نابليون قال كلمته التي ذكرتها أولا في أوائل القرن التاسع عشر حين كان منطق الصراع قائم على القوة لا الحق، وعلى القدرة لا العدل، حيث كان الناس ينظرون بإعجاب بليد إلى التفوق والنجاح حتى لو كان مستندا إلى أسس عديمة الأخلاق، لكن هل تغير شيء من ذلك أو يوشك على التغير؟ لا يبدو ذلك واضحا.
التعليقات (0)