قضايا وآراء

15 تموز.. ملحمة شعب أم خطوة نحو الديكتاتورية؟

محمود عثمان
1300x600
1300x600
أحيا الشعب التركي الذكرى السنوية الأولى للمحاولة الانقلابية الفاشلة؛ حيث شهدت العاصمة أنقرة ومدينة إسطنبول، منتصف تموز/ يوليو 2016، محاولة انقلاب فاشلة نفذتها عناصر من الجيش تنتمي إلى منظمة "فتح الله غولن"، أو ما سمي فيما بعد بالكيان الموازي. الزمرة الانقلابية حاولت السيطرة على مفاصل الدولة ومؤسساتها الأمنية والإعلامية. لكن محاولتها قوبلت بمقاومة شعبية عارمة قل مثيلها، شملت معظم المدن والولايات التركية؛ إذ توجه المواطنون بحشود ضخمة تجاه البرلمان ورئاسة الأركان والقصر الجمهوري بالعاصمة أنقرة، والمطار الدولي ومديرية الأمن والبلدية والجسر المعلق ومنزل الرئيس أردوغان في مدينة إسطنبول، وكذلك مديريات الأمن والمباني الحكومية في عدد من المدن؛ ما أجبر القوات الانقلابية المحاصرة التي كانت تنتشر حول تلك المؤسسات الحكومية على الانسحاب أمام الصمود الأسطوري للشعب التركي.

الشعب التركي الذي استسلم لسلطة الأمر الواقع التي فرضها الانقلابيون في الانقلابات السابقة، وفضل عدم الاصطدام معها، حتى عندما قام الانقلابيون بإعدام رئيس الوزراء الذي انتخبه بأصواته، قرر التصدي لهم هذه المرة. فقد خرجت الجموع الغاضبة في حشود لم يسبق أن شهد التاريخُ لها مثيلا، خلال دقائق معدودة فقط.. تصدوا للدبابات والمدرعات والآليات العسكرية والأسلحة الثقيلة بصدور عارية. نزل الملايين للشارع بعد دعوة الرئيس رجب طيب أردوغان، رئيس الجمهورية والقائد العام للجيش والقوات المسلحة، لهم للنزول إلى الشوارع من أجل الدفاع عن الديمقراطية ومؤسسات الدولة. نزل الشعب للشارع بسرعة أذهلت الجميع، واستمر في حراسته لمؤسسات الدولة، والسهر على حريته، لفترة بلغت 27 يوما، إلى أن صدر قرار القائد العام الرئيس أردوغان بالعودة إلى بيوتهم.

المحاولة الانقلابية فشلت نعم.. لكن هل انتهى الخطر؟ وهل أصبحت تركيا محصنة ضد الانقلابات؟ وهل ولى زمن الانقلابات العسكرية في تركيا إلى غير رجعة؟

لا يفتأ الرئيس أردوغان وقيادات حزب العدالة والتنمية، ومعهم رئيس الحركة القومية، يشددون على أن التعديلات الدستورية التي تم إقرارها مؤخرا، بالتحول من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، سوف تساهم إلى حد كبير في تحصين النظام السياسي التركي ليصبح عصيا على الانقلابات العسكرية، التي كان سببها تدخل القوى الداخلية والخارجية في الحياة السياسية. هذا التدخل كان يشكل العامل الأساس في إضعاف مؤسسة السياسة، وجعلها عرضة للتجاذبات وضحية لأصحاب المصالح من الشركات العملاقة وغيرها، ممن كانوا يستخدمون العسكر ويحرضونهم على الانقلاب ضد السلطة الشرعية.

هناك أسباب كثيرة لا يتسع المقام هنا لسردها جميعا؛ تجعلنا نصل إلى قناعة بأن نظام الحكم في تركيا بات أكثر حصانة وأشد مناعة ضد الانقلابات العسكرية. من تلك الأسباب المانعة، على سبيل المثال لا الحصر، النضوج الفكري لدى العسكر أنفسهم، وقناعتهم بأن كل انقلاب كان يكلف تركيا أكثر من ثلاثين عاما، من التخلف وتراجع عجلة الإنتاج وانهيار الاقتصاد. لكن أهم تلك العوامل على الإطلاق، هو ما أبداه الشعب التركي من نضج ووعي وبسالة في التصدي للانقلاب. إذ اعتبر الأتراك أنهم على درجة من النضوج الحضاري لا تسمح لمصطلح الانقلاب أن يقترن بحياتهم السياسية.

رئيس البرلمان التركي، إسماعيل قهرمان، قال إن تركيا لن تشهد بعد اليوم إطاحة بالحكومات بفضل النظام الجديد وتبني المجتمع التركي للديمقراطية، مؤكدا أن "زمن الانقلابات قد ولّى".

وأعرب عن اعتقاده بأن تركيا لن تواجه بعد اليوم مثل هذه المصائب، وأن الأطراف التي تنشر الادعاءات "هي نفسها التي تريد إفشال النهضة والتطور في تركيا، إلا أن الشعب التركي لن يقع في الكمين".

وأوضح أن الأطراف التي تخطط للانقلابات أو تشجع لها، سيخيب أملها، لأن تركيا لن تشهد بعد اليوم إطاحة بالحكومات أو حكومات قصيرة الأمد، بفضل نظامها الجديد وتبني مجتمعها للديمقراطية.

في الطرف المقابل، يشكك رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو في الانقلاب أصلا، ويقول إنما حدث ليلة 15 تموز/ يوليو ما هو إلا مسرحية شارك في إعدادها وتنفيذها أردوغان وحزب العدالة والتنمية، ويصف ذلك بـ"الانقلاب تحت السيطرة".

كمال كليجدار أوغلو ليس الوحيد الذي يشكك في الانقلاب. إذ تكاد معظم الدول الأوربية وأمريكا تجمع على أن المحاولة الانقلابية يشوبها قدر كبير من الشك، وأن الرئيس رجب طيب أردوغان يريد استغلالها من أجل زيادة صلاحياته، للمضي قدما نحو الدكتاتورية! ويطرحون أسئلة مشككة حول العجالة والبساطة التي تم فيها انقلاب 15 تموز/ يوليو، بخلاف الانقلابات السابقة.

بعض الأوساط المشككة، داخل تركيا وخارجها، تقول عن المحاولة الانقلابية: "هل يمكن تنفيذ انقلاب بهذه الطريقة الساذجة؟ ولماذا جاء الانقلاب على عجالة، وعلى نطاق ضيق ودون خطة محكمة؟".

في حقيقة الأمر، فقد كانت المحاولة الانقلابية محسوبة بدقة للغاية، وجميع التفاصيل كانت مأخوذة بعين الاعتبار. والمحاولة لا تختلف عن شبيهاتها في شيء. لكن هناك عوامل عدة لم تكن في الحسبان أدت إلى فشله.

الأسباب الرئيسية التي أدت إلى فشل المحاولة الانقلابية:

أولا: فقد تنظيم غولن جزءا كبيرا من قوته "العملياتية" بعد محاولته الأولى الفاشلة لإسقاط الحكومة واعتقال أردوغان بواسطة ذراعه داخل سلك القضاء، في 17 و25 كانون الأول/ ديسمبر عام 2013.

ثانيا: تم قطع أذرع تنظيم غولن داخل سلك القضاء والأمن والإعلام.

ثالثا: وضع التنظيم على قائمة التهديدات لمجلس الأمن القومي، سهل عملية تصفيته من مؤسسات الدولة التركية.

رابعا: تم كشف برنامج تخاطبه السري "بايلوك"، واستطاع جهاز المخابرات التركي الحصول على غالبية أسماء أعضاء التنظيم، وكشف نشاطاتهم وتحركاتهم.

خامسا: علم جهاز المخابرات التركي بالانقلاب في وقت مبكر بنفس اليوم الساعة 14.20، وعلم بذلك الانقلابيون، فاضطروا لتقديم موعده من الساعة الثالثة ليلا إلى الثامنة والنصف مساء.

سادسا: عدم موافقة قيادة الجيش التركي على الانقلاب.

إن تقديم موعد تنفيذ الانقلاب لا يغير من حقيقة كونه مخططا له ومحسوبة أدق تفاصيله. فقد حسب منفذوه كل التفاصيل باستثناء نقطة واحدة، لم يأخذوها في الحسبان. لقد بنى الانقلابيون حساباتهم على اعتبار أن الشعب لن يقاومهم، وسيقبل بهم كما قبل أمثالهم. لكن ظنهم ذاك أرداهم خاسرين.
التعليقات (0)