مقالات مختارة

حديث الأقصى والسفارة وحبل المشنقة حول عنق قلقيلية

عبد الحميد صيام
1300x600
1300x600
لا حديث للناس هنا إلا الحرم الشريف والصلاة في المسجد الأقصى وتصميم الجماهير المقدسية، مدعومة بجماهير فلسطين التاريخية والشعب الفلسطيني بكامله، على إفشال مخطط التقسيمين المكاني والزماني لمنطقة الحرم، كما حدث في الحرم الإبراهيمي في الخليل. 

شابات وشباب ظلوا مرابطين على مدار الساعة، واعتبروا أنفسهم وهم فعلا كذلك، على خط المجابهة الأول، يدافعون عن شرف أمة أوردتها قياداتها الرخوة أو المتآمرة إلى حياض الهوان ودروب الردى والخنوع. 

خمسة شهداء وأكثر من ألف جريح ونحو 150 معتقلا، ما وهنوا، وما كلت عزائمهم منذ الهبة التي بدأت يوم الجمعة في الرابع عشر من الشهر الحالي. بدأت تنتشر المواجهات وتتسع قرب الحواجز والمستوطنات ونقاط التماس، وانطلقت حركة تضامن عربية وعالمية على مستوى الشعوب، بدأت تتدحرج ككرة الثلج. لقد بدأ الشباب من أبناء القدس المنتمين للدين المسيحي، يوزعون المياه الباردة على المعتصمين ويشاركونهم صلاتهم واعتصاماتهم وهتافاتهم، وبعض تجار القدس تعهدوا بتقديم الطعام والماء للمرابطين، حتى لو وصل عددهم مليونا. كنائس بيت لحم طلبت من رعاياها التوجه للمساجد للتضامن. بدأت القيادات الصهيونية تشعر بأن الأمور تفلت من يديها تماما، فإما أن ترتكب المجازر ضد المدنيين، وإما أن تتراجع وتستسلم وهو أمر ليس بالهين. 

وكتبت إحدى الصحف «الأوضاع تتدحرج نحو الانفجار. الأوضاع في القدس والضفة الغربية قد تخرج عن السيطرة». مفتي القدس، الشيخ محمد حسين، أكد أن الصلوات خارج أبواب القدس وفي الشوارع المحيطة ستستمر إلى أن تزال البوابات. إذن كان لا بد من البحث عن طريقة للنزول عن الشجرة التي وجد الثلاثي؛ نتنياهو، ليبرمان، بينيت، أنفسهم فوقها. فكان قرار تفكيك البوابات، التي لو ثبتت على مداخل الأقصى لتكرست السيادة المطلقة لإسرائيل على الحرم الشريف، وبدأ بالفعل التقسيم المكاني يليه التقسيم الزماني، وهو ما كانت تسعى إسرائيل له ردا على قرار اليونسكو بتاريخ 3 أكتوبر 2016 حسم مسألة مرجعية الحرم الشريف بلا مواربة، بأنه تراث إسلامي خالص ليس لإسرائيل علاقة به. 

لقد انتصر المقدسيون الشجعان ومعهم ومن خلفهم كافة شرائح الشعب الفلسطيني المناضل. ولا حاجة لنا أن نردد بعض المواقف المشينة لبعض رموز السلطة، التي لا علاقة لها بالحركة الجماهيرية المناضلة في القدس والوطن. لقد كنت شاهد عيان والشرطة الفلسطينية تقيم حاجزا قرب حاجز بيتين (بيت إيل) والشباب يحاولون أن يقتحموا المكان، إلا أن قوات الأمن الفلسطينية شكلت سدا كي لا تتحول المواجهة مع الموقع لدموية. فالجنود أصابعهم على الزناد والرعب في عيونهم والحل الأسهل عندهم «أقتل ثم حقق». 

أما مسيرة التضامن حول دوار المنارة في رام الله يوم الأربعاء، فكانت متواضعة جدا لا يكاد العدد يصل إلى 200 مشارك، حيث غابت عنها فتح وحماس كل لأسبابه. لقد أقرت الصحافة الإسرائيلية بالهزيمة، بعد قرار تفكيك البوابات. فحسب صحيفة «معاريف» فإن 67% من الإسرائيليين يرون أن أداء نتنياهو غير جيد وأن 77% يقرون أن حكومة نتنياهو قدمت تنازلات في أزمة الأقصى. إنه انتصار نظيف. إنه مؤشر على المخزون النضالي العالي لهذا الشعب العيي على الكسر، الذي ما فتئ يذهل العالم بصموده وتضحياته وتضامنه مع بعضه بعضا في ساعات الشدة. الشيء الأكيد الذي كشفته هذه الأزمة، ولم يكن مفاجئا ولا جديدا، هو مدى التخاذل العربي، بل تواطؤ بعض الدول العربية مع الكيان الصهيوني حول قضية من المفروض أن تكون فوق الخلافات وفوق المنافسات وفوق المماحكات.

جريمة السفارة الإسرائيلية في عمّان

لا أحد هنا لم يشعر بالقهر والمذلة على إعدام الشهيدين الأردنيين، محمد الجواودة (16عاما) والطبيب بشار الحمارنة، مساء الأحد الماضي على يد حارس السفارة زئيف بدم بارد، ثم ترتيب خروج القاتل بعد ارتكاب جريمته دون حتى التحقيق معه. حاولت بعض وسائل الإعلام أن تشير إلى أن هناك مقايضة بإطلاق سراح القاتل، مقابل تفكيك البوابات على الأقصى، وقد ثبت أن هذا الخبر عار من الصحة تماما. كما نود أن نؤكد أن الشهيد الجواودة لم يعتد على موظف الأمن الإسرائيلي، وأنه لم يحاول طعنه بالمفك، كما أكدت صحيفة «هآرتس» حيث قالت بالحرف «إن رجل الأمن أصيب عندما قفز إلى الخلف مبتعدا عن الأردني وهو مشهر سلاحه في يده». 

أما موضوع الحصانة الدبلوماسية واتفاقية فيينا فهي كلمة حق أريد بها باطل. فعندما يرتكب الدبلوماسي جريمة في البلد المعتمد فيه، يسمح للبلد المضيف أن يحقق معه ويحتجزه ويوجه له التهم، ثم يتم تقييده ونقله إلى بلده وهو مقيد، ثم تنزع الحصانة عنه وتتم محاكمته في بلده بوجود مراقب أو محام من البلد الذي ارتكبت فيه الجريمة، لضمان نزاهة المحاكمة، وبعد ذلك يصدر القصاص المناسب بحق المجرم. أما أن يعامل كبطل قومي ويقوم رئيس وزراء الدولة بمحادثته هاتفيا بعد دقيقتين من اجتياز الحدود وتهنئته بالخروج سالما، كما وعده، ثم يستقبله صباح الثلاثاء في مكتبه بصحبة السفيرة الإسرائيلية في الأردن، عينات شلاين، للقيام بواجبات الشكر والتهنئة على السلامة، فلا هذا من الأعراف الدبلوماسية ولا علاقة لهذا باتفاقية فيينا، التي لا تحمي القتلة والمجرمين ولا تعاملهم كأبطال. 

إنها العربدة والاستهتار بالدم العربي المسفوح. ولكم أن تتصوروا لو حدث العكس فكيف سيكون رد فعل السلطات الإسرائيلية؟ من هنا جاء القهر على مستوى الشارع الفلسطيني، وانتشرت نظرية المؤامرة كالعادة، التي تقول إن الحادثة مدبرة كي يتمكن نتنياهو من الخروج بماء الوجه، من أزمة الأقصى وتحويل أنظار الإسرائيليين إلى حادثة يبدو فيها بطلا خارقا.

قلقيلية والجدار الخانق

زيارة مدينة قلقيلية في الشمال الفلسطيني تثير كثيرا من المواجع والشجن على ما جرى لسلة الفواكه لفلسطين والأردن في ما مضى من غابر الأيام. المدينة بينها وبين الكيان الإسرائيلي ثارات قديمة، إذ إنه عجز عن احتلالها عام 1948 رغم المحاولات العديدة والمتواصلة لقربها من الساحل الفلسطيني، الذي لا يبعد أكثر من 11 كيلومترا برا. إنها نقطة الضعف الأخطر في الخاصرة الصهيونية. لكن خط الهدنة لعام 1949 ابتلع الجزء الأكبر من أراضيها. فمن 49.5 كيلومتر مربع لم يبق من أراضيها إلا نحو 18.5. 

أما الآن فلم يبق من أراضي البلدة إلا أقل من أربعة كيلومترات مربعة يسكنها نحو 55000 نسمة، كما أخبرني رئيس البلدية، الدكتور هاشم المصري. وروى لي كيف تم هدم المدينة بكاملها حجرا على حجر عام 1967 لإبادتها من الوجود لتوسيع عمق مدن الساحل. قرر أبناء البلدة آنذاك أن ينصبوا خيما فوق أنقاض بلدتهم ويبقوا فيها ولا يرحلون. ثم أثاروا الرأي العام العالمي والمنظمات غير الحكومية والصحافة ومنظمات الأمم المتحدة، إلى أن تم إلغاء القرار الإسرائيلي بضم قلقيلية لكن حقدهم زاد على المدينة بعد فشلهم هذا، تحولت خططهم إلى عملية خنق متواصل للمدينة الغنية بالماء، حيث تجلس على أكبر تجمع للمياه الجوفية في فلسطين، فاعتمدوا أسلوبين خطيرين: تكثيف المستوطنات حول المدينة بداية من عام 1977. وبناء الجدار العازل حول المدينة من كل الاتجاهات إلا مخرجا صغيرا واحدا أقيم فيه معبر رسمي وبرج مراقبة وبوابة يمكن إغلاقها في أي وقت. 

فالمدينة في الحقيقة سجن كبير مطوق من كل الاتجاهات، ورغم هذا فالمدينة تعمل على النهوض في كل المجالات ففيها الجامعة الإسلامية وحديقة حيوانات هي الوحيدة في البلاد وزراعة الفواكه والخضروات ما زالت عصب اقتصاد المدينة. زرت مقاطع عديدة من الجدار الملتف حول المدينة كأنه حبل المشنقة. أبراج المراقبة منتشرة على طول الجدار. وعندما اقتربت من أحد الأبراج لالتقاط بعض الصور أشار جندي بيده نحوي أن أنصرف. قال مرافقي محمد ونحن نعود للسيارة لننتقل إلى مكان آخر: «لو لم نغادر المكان فورا لأفرغ بندقيته نحونا، وسنكون من المحظوظين إذا كانت طلقة التحذير الأولى رصاصة مطاطية».

القدس العربي
0
التعليقات (0)