كتاب عربي 21

من يحكم المغرب؟

طارق أوشن
1300x600
1300x600
الصورة القاتمة التي قدمها الملك محمد السادس، في خطاب العرش الأخير،عن الوضع السياسي والاجتماعي بالمغرب لا يمكنها إلا أن تدفع المواطن للتساؤل عن طبيعة من يحكمه فعلا.

فأغلب الساسة، كما جاء في الخطاب يغلبون "منطق الربح والخسارة، للحفاظ على رصيدهم السياسي أو تعزيزه على حساب الوطن، وتفاقم الأوضاع.. وعندما تكون النتائج إيجابية، تتسابق الأحزاب والطبقة السياسية والمسؤولون، إلى الواجهة، للإستفادة سياسيا وإعلاميا، من المكاسب المحققة.

أما عندما لا تسير الأمور كما ينبغي، يتم الاختباء وراء القصر الملكي، وإرجاع كل الأمور إليه". والثقة تكاد تكون معدومة بين أطراف عملية الحكم، حيث إن "ملك المغرب، غير مقتنع بالطريقة التي تمارس بها السياسة، ولا يثق في عدد من السياسيين" في وقت يعاني الجهاز الإداري من الضعف "سواء من حيث الحكامة، أو مستوى النجاعة أو جودة الخدمات، التي يقدمها للمواطنين" والحصيلة "تواضع الإنجازات في بعض المجالات الاجتماعية، حتى أصبح من المخجل أن يقال أنها تقع في مغرب اليوم" يقول الخطاب الملكي.

في السنة الأخيرة من ولاية رئيس الوزراء السابق عبد الإله بنكيران، صرح الأخير، في ظل أجواء الصراع الحزبي المحمومة بينه وبين أطراف في الدولة والحكم، أن المغرب يسير بحكومتين أولاهما تحت رئاسة الملك والأخرى لا نعرف لها قائدا، وهي التي تعين المسؤولين السامين وترسم السياسات. 

تصريح جر على رئيس الوزراء غضبة ملكية ترجمتها كلمات خطاب سابق أعاد الملك بعضا من مفرداته في الخطاب الأخير وهو يؤكد على أن "تدبير الشأن العام، ينبغي أن يظل بعيدا عن المصالح الشخصية والحزبية، وعن الخطابات الشعبوية، وعن استعمال بعض المصطلحات الغريبة، التي تسيء للعمل السياسي".

انتهى الأمر بعبد الإله بنكيران مبعدا عن ولاية ثانية كان يراها حقا مكتسبا تصونه "الإرادة الشعبية" المعبر عنها في الانتخابات. إزاحة الرجل عن المنصب كادت تقضي عليه، حسب كلامه قبل أيام أمام منتدى شبيبة حزبه، حيث بدا الأمين العام لحزب العدالة والتنمية مستعيدا لخطابه السياسي "المعارض" من داخل الحكم، فبدا وكأنه يدفع التهم التي جاء بها الخطاب الملكي عن نفسه باعتباره "مسؤولا" عن تدبير الشأن العام خمس سنوات كاملة، ومالك حقوق كلمات "غريبة" دخلت معه قاموس السجال السياسي المغربي. 

عبد الإله بنكيران أعاد في خطابه الأخير التأكيد على كل ما يمكن للآخرين أن يؤاخذوه عليه ولم يتراجع قيد أنملة عن "خطه السياسي"، بل إنه رفع التحدي عاليا وهو يعرض حل حزبه إن ثبت عليه تلقي تمويلات خارجية أو على وزرائه العمل ضد مصالح البلاد لاعتبارات حزبية ضيقة.

 بنكيران، الذي أحس على ما يبدو بالنيران تقترب منه، ربط مصيره كمدبر لولاية حكومية لها ما لها وعليها ما عليها، بمصير حزبه فلم ينادي بمحاسبة المخطئين من وزرائه بل بحله بشكل نهائي بعد التذكير بموقف الملك الرافض لذلك الحل إبان تفجيرات السادس عشر من ماي 2003 الإرهابية.

ولأن المرحلة تبدو مفتوحة على مفاجآت، لم ينس الرجل التأكيد على أن الحزب رد الدين الملكي في العام 2011 في مواجهة الحركة الاحتجاجية الكبرى التي عرفها الشارع المغربي وقتها  كحلقة من حلقات "الربيع العربي".

وفي الوقت الذي أعلن فيه بنكيران عن استعادة روحه القتالية، فاجأ معادله الطبيعي من حزب الأصالة والمعاصرة، إلياس العماري، الجميع بإعلانه الاستقالة من رئاسة الحزب باعتباره "معنيا بالخطاب الملكي".

الأكيد أن جزءا من هذا الخطاب بدا موجها بشكل مباشر لمظاهر التنافس الحاد الذي طبع علاقات حزبي العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة وأميناهما العامان باعتبارهما قطبي الرحى في الحياة الحزبية المغربية، لكن التبريرات المقدمة من الأمين العام المستقيل من المسؤولية الحزبية مع احتفاظه بمسؤولية التدبير السياسي لواحدة من أهم جهات البلاد، لم تكن "مقنعة" بما فتح الباب للتأويلات والقراءات التي نحت في معظمها أن "الاستقالة" مجرد تنفيذ لأوامر المالكين الحقيقيين للحزب وأجهزته في إطار تصور شامل للدولة يروم تغيير الوجوه لفتح الباب أمام إعادة صياغة التحالفات وهندسة الفضاء الحزبي والحكومي بما يخدم التوجه المعلن للدولة في خطاب العرش.

الغريب في الأمر أن بنكيران والعماري وبالرغم من مسؤولياتهما الحالية والسابقة فضلا مرة أخرى تغليب المصلحة الحزبية على المصلحة الوطنية حيث ربط الأول مصيره بمصير الحزب، وفضل الآخر النأي بمصيره عن الحزب انقاذا له من الزوال وهو الحامل لخطيئة النشأة والتكوين.

وفي المقابل سكتت بقية الاحزاب الممثلة في البرلمان عن التعليق على الخطاب الملكي بما يعد تثمينا لا تملك غيره وهي الفاقدة لقرارها الحزبي أو الغارقة في محاولات حلحلة صراعات داخلية تكاد تعصف بها.

هذا واقع الحال، الذي لا يختلف اثنان أن الخطاب الملكي قد شخصه بدقة وصراحة نادرتين. لكن السؤال الملح هو: وماذا بعد؟

أسوأ ما يمكن أن يقع بعد هذا الخطاب هو ألا يقع أي شيء.

في الخطاب يقول الملك إن "هذا الوضع لا يمكن أن يستمر، لأن الأمر يتعلق بمصالح الوطن والمواطنين. وأنا أزن كلامي ، وأعرف ما أقول لأنه نابع من تفكير عميق" قبل أن يضيف "إذا تخلف المسؤولون عن القيام بواجبهم، وتركوا قضايا الوطن والمواطنين عرضة للضياع، فإن مهامي الدستورية تلزمني بضمان أمن البلاد واستقرارها، وصيانة مصالح الناس وحقوقهم وحرياته".

منطق يقول كثيرون إنه يؤسس لعودة أقوى للملكية التنفيذية في وقت كان فيه المطلب لسنوات نظام ملكية برلمانية تستمد فيه المسؤولية شرعيتها من صناديق الاقتراع على أن ترتبط بالمحاسبة بشقيها القانوني والانتخابي. 

يبدو أن تجربة ما بعد انتخابات 2011 أظهرت محدودية تطبيق النموذج المؤسسي المغربي الذي ظل مجرد حبر على ورق. لم يبحث صانع القرار عن الأسباب وراء محدودية تفعيل الوثيقة الدستورية بل ذهب مباشرة إلى النتيجة وعليها بنا تشخيصه ورؤيته للحل الذي ينتظر المغاربة ملامح له في خطاب 20 أغسطس القادم، الذي إن لم يحمل رزمة حلول دستورية أو إجرائية، فإنه سيطلق لا محالة رصاصة الرحمة على "النموذج المغربي" فاتحا الأبواب مشرعة أمام مجهول يطبعه "انعدام الثقة" المعلن بين الملكية والفاعلين الحزبيين، بما مثله ذلك في التاريخ السياسي المغربي من نافذة حاول العسكر النفاذ منها مرتين دون نجاح، ومن نفق مظلم أدخل البلاد في موجات قلاقل وهبات احتجاجية تبدو فاتورتها في المرحلة الحالية أثقل من أن يتحملها المغرب على المستويين الداخلي والخارجي.

العبث بمستقبل الوطن لتحقيق مأرب حزبية ضيقة خيانة للأمانة، لكن قتل السياسة لم يكن الحل يوما بل إنه دفع للقصر إلى المواجهة المباشرة مع المواطنين وهو بذلك مصدر لشر مستطير لا يبقي ولا يذر.




0
التعليقات (0)