كتاب عربي 21

التهافت الغبي (2)

جعفر عباس
1300x600
1300x600
دخلت مفردة "الهرولة" القاموس السياسي الفلسطيني في عام 1993، مع إبرام ما هو معروف باتفاق أوسلو، برعاية الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، وما تلاه من أعوام، في سياق الردح السياسي بين بابوات (وإن شئت قل أبوات) منظمة التمرير الفلسطينية، ومعارضي الاتفاق (استحقت منظمة التحرير الفلسطينية المسمى الجديد، لأنها ومنذ اتفاق أوسلو الذي أبرمته مع إسرائيل، صار كل إسهامها في القضية "المصيرية" هو تمرير القرارات الصادرة من الباب العالي في واشنطن).

واستخدمت كلمة الهرولة لاستنكار تهافت قيادات منظمة التمرير (اقرأ حركة فتح) للسعي بين أوسلو ومدريد وواشنطن، ثم اعتكافهم أمام رب ذلك البيت (الأبيض)، الذي لم يطعمهم من جوع ولم يآمنهم من خوف.

كان الرئيس المصري المؤمن أنور السادات، أول من مارس التهافت على الولايات المتحدة بأسلوب مكشوف، وكانت بعض الأنظمة العربية خاتما في إصبع واشنطن، ولكن بصورة "كتّامي"، بينما كان السادات صريحا، وقال إن كل أوراق قضايا العرب في يد الولايات المتحدة.

وفي الطرف الآخر من المعادلة، كانت هناك جبهة دول الصمود والتصدي، وكان الاسم يوحي بأن تلك الدول ستتصدى لإسرائيل، وتصمد في وجه بغيها وعدوانها، ولكن كان كل ما أنجزته في ذلك الصدد، هو طرد مصر من الجامعة العربية، باعتبار أنها خرجت من "الإجماع العربي – اسم الله عليه - لأنها وقعت اتفاق كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل.

والغريب في الأمر هو هذا اتفاق كامب ديفيد صمد، بينما تكلست تلك الدول، واستحقت اسم جبهة "الصموت والتصدئ"، والخطأ اللغوي في هذه التسمية ضرب من البلاغة الرفيعة، لوصف حال مستحدث.

ولم يكن مستغربا أن عرّاب تلك الجبهة، والأجهر صوتا بين مؤسسيها، وهو الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، سئم من التخبيص والتهريج بعد أن اكتشف أن كونه ملك ملوك أفريقيا، يجعله في مرتبة واحدة مع ملك أوراق اللعب، فكان أن سلم كامل ترسانته من الأسلحة الكيميائية والجرثومية ونواة قنبلته النووية للولايات المتحدة، ودفع آلاف الملايين لعائلات أمريكية فقدوا أقارب، في حادث إسقاط عملاء الاستخبارات الليبية، لطائرة ركاب أمريكية فوق لوكربي في اسكتلندا.

دخل القذافي بيت الطاعة الأمريكي ذليلا كسيرا، ومع هذا ظل ناشزا في نظر واشنطن، التي انتهزت فرصة الانتفاضة الشعبية ضد حكمه، واستعانت بحلفائها، فدكوا قلاعه، وانتهى به الأمر محشورا في أنبوب للصرف الصحي، ومنه محشورا في قبر.

الزعماء العرب الذين يتسابقون للجلوس قبالة كل سيد في البيت الأبيض، لا يقرأون التاريخ الحديث، وثقافتهم السياسية مستقاة من تجربة الدولة الأموية، ولكن فقط من حيث توارث كرسي الحكم، ولم يأخذوا عنها التحول إلى إمبراطورية كبرى، بلغت ذروة اتساعها في عهد الخليفة العاشر هشام بن عبد الملك، إذ امتدت حدودها من أطراف الصين شرقاً، حتى جنوب فرنسا غرباً، وتمكنت من فتح إفريقية والمغرب والأندلس وجنوب الغال والسند وما وراء النهر. (بلاد الغال كانت تضم المناطق التي تشمل الآن فرنسا وبلجيكا، والجزء الألماني الواقع غرب نهر الراين. وكانت لها لغتها وكنائسها الخاصة).

ولو قرأوا التاريخ الحديث (وتاريخ الولايات المتحدة كله حديث) لأدركوا أنه ما من زعيم سَلّم رقبته، وباع ذمّته لتلك الولايات المتحدة، إلا باعته في منعطف ما، وبالمصري هي دولة "ما لهاش صاحب"، لأنها تعاني من اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط "Attention deficit disorder" الذي يميل المصاب به لتجاهل الضوابط والقوانين والأوامر ويصعب عليه الاندماج في البيئة المحيطة به، ويكون ميالا لممارسة الشغب، وهناك شواهد بالكوم بأنه ما من شغب شديد الدوي ووخيم العواقب في أي ركن من الدنيا إلا وكانت الولايات المتحدة اللاعب الأساسي فيه.

وعلى مدى نحو سبعين عاما، ظل العرب يتباكون لأن الولايات المتحدة هي الحليفة الكبرى لإسرائيل، بينما واقع الأمر هو أنها لا تحفل بإسرائيل كدولة ولا باليهود المقيمين فيها، بقدر اهتمام أحزابها ورؤسائها بكسب ود يهود الولايات المتحدة، والذين –رغم أنهم أقلية هزيلة مقارنة بالأمريكان ذوي الأصول اللاتينية والأفريقية- إلا أن لهم نفوذا ضخما في دنيا المال والإعلام، ومن يخوض انتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة دون دعم من اللوبي اليهودي "ياكل هوا".

ولو كانت الولايات المتحدة تحفل بأمر إسرائيل بالقدر الذي يتوهّمه العرب، لما سكتت، وهي ترى جميع حلفائها الأوربيين تقريبا يعارضون سياسات إسرائيل الاستيطانية، ويطالبونها بقبول قيام دولة فلسطينية مستقلة تكون جارة لها، فطالما أن اليهود الأمريكان لن يحملوها مسؤولية الضغوط الأوربية على إسرائيل، فواشنطن ليست قلقة من تلك الضغوط، وما قد تسفر عنه من نتائج (سبحان الله فالموقف الأوربي اليوم من القضية الفلسطينية أكثر جسارة وحزما من المواقف العربية).

ولأن الحديث عن واشنطن، وعلاقات العرب بها ذو شجون متداخلة، فإن الاستطراد حال دون إيرادي لشواهد وأدلة تاريخية قاطعة، بأن تهافت العرب على القادة الأمريكان يتسم بالغباء الذي يعيي من يداويه.
ولنا عودة إذا كان في العمر بقية

0
التعليقات (0)

خبر عاجل