قضايا وآراء

ماذا بقي من العلاقات الأورومتوسطية؟

يحيى اليحياوي
1300x600
1300x600
في الرابع عشر من شهر يوليو/حزيران 2008، التأم بالعاصمة الفرنسية باريس، وبذكرى سقوط الباستيل التاريخية، جمع كبير من "قادة المتوسط"، للبث في حال ومآل مشروع "الاتحاد من أجل المتوسط"، الذي صاغته فرنسا ساركوزي، وروجت لفكرته وأرادته بديلا، بالجملة أو ببعض من التفاصيل، عن المشاريع المتوسطية التي لطالما اعتملت بالمنطقة، فانحسر مدها ومداها على محك التحولات وتغير السياقات.

قد لا يكون من المهم كثيرا تدوين ما تم تحقيقه في هذا الباب، أو إعمال عنصر المقارنة للوقوف عند الحصيلة. فالمشروع كان ولا يزال فيما تبقى منه، فكرة عامة، هلامية، مضببة في كثير من جوانبها، قابلة للنقاش والتطوير، على أساس من هذا الاعتبار أو ذاك.

 ومع ذلك، فبالإمكان القول بأن ما اعتمل بين ضفتي المتوسط، طيلة الثلاثة عقود الماضية، إنما يشي بأن المشروع أتى لتجاوز ما سبق من تجارب.

فالمشروع يسلم بأن المشاريع المعتمدة (مسلسل برشلونة، وحوار الـ 5+5، وسياسة القرب الأوروبية، والتسهيلات الأوروبية للاستثمار والشراكة، وغيرها)، لم تحل دون تزايد اللاتوازن بين الضفتين، لأنها لم تشتغل بطريقة عملية، ووفق تصور سياسي قبلي، يضمن لها الاستمرار على أساس التقييم بأفق التقويم.

بالتالي، ففكرة العمل بمشاريع عملية محددة، للرد مباشرة وعن قرب على حاجيات السكان بالضفتين، ثم وضع إطار سياسي يؤطر هذه التوجهات، مع خلق وكالة للمتوسط، يثوي خلفها مجلس وزراء، كلها عناصر تشي بالحاجة إلى تغيير المنهجية، لا سيما وأن الدافعين بالمشروع كانوا يتغيأون عدم نسخ البنى والهياكل القائمة، والتي أبانت عن محدوديتها.

لذلك، فإن الذي راهن عليه المشروع الجديد إنما دفعه بضرورة تغيير زاوية المقاربة، أي توسيع مجال المتوسط ليغدو بمرور الزمن فضاء مؤسسيا وسياسيا، عوض أن يبقى، كما في المقاربات السابقة، مجالا جغرافيا لمنطقة قائمة الذات، محددة الإطار المادي، واضحة المعالم بالخريطة.

ويبدو بهذه الجزئية، أن نقطة ضعف المشاريع السابقة، إنما تمثلت في كونها عمدت إلى إدماج دول الاتحاد الأوروبي كأعضاء قانونيين، فيما اكتفى الباقي بوضعية الملاحظ أو الملحق، مما كان من شأنه توسيع نطاق الأبوية التي طبعت العلاقة بين الضفتين، وخلق تقاطبات جهوية ضيقة، لا سيما بظل تباين النظم الاقتصادية والاجتماعية، وتناقض الأولويات بين الدول الأعضاء.

من جهة أخرى، فقد جاء المشروع، وهو فرنسي المنشأ والتصور بامتياز، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من جغرافيا النفوذ، لا سيما بإفريقيا التي غزتها الصين اقتصاديا، وتوسع التواجد العسكري بها من لدن الأمريكان. الاتحاد من أجل المتوسط هنا لم يقتصر مداه على المتوسط، بل تعداه ليطاول مجمل جهات ومناطق القارة الإفريقية، التي هي مكمن الرهان والتحدي القادم.

بالآن ذاته، فقد كان ثمة تصور قصير المدى، الغاية من الدفع به، الحيلولة دون استمرار منسوب الهجرة غير الشرعية، المتأتية من الضفة الجنوبية للمتوسط، ثم التنسيق للوقوف بوجه الحركات المتطرفة، المنتشرة بجنوب الضفة، والمهددة للمصالح الأوروبية والفرنسية بصورة مباشرة.

القراءة الجغرافية غير كافية بهذه النقطة، إذ الأهم منها العنصر الجيوستراتيجي، الذي لا تزال اتفاقيتا يالطا ومالطا تتحكمان فيه بقوة بالمتوسط. ولما لم يكن للدول الأوروبية من قدرة في التراجع عن قواعد اللعبة التي حددتها الاتفاقيتين، فإن مشروع الاتحاد من أجل المتوسط لا يمكن أن يتجاهل النفوذ الأمريكي، والطموح الصيني المتزايد بالمنطقة.

لذلك، وللتجاوز على هذه التجاذبات الكبرى، أو لنقل لقطع الطريق على المشاريع الآتية من بعيد، عمد الاتحاد الأوروبي (وفرنسا بالتحديد) على تضمين المشروع بعدا مؤسساتيا صرفا، لطالما تم تغييبه عن قصد بالمشاريع الأورومتوسطية السابقة: عقد قمم منتظمة لرؤساء الدول والحكومات، رئاسة مزدوجة بين قادة من الشمال ومن الجنوب وإنشاء سكرتارية دائمة للاتحاد، إلى جانب اتفاق الطرفين على صياغة وتنفيذ مشاريع محددة تتعلق بتنظيف المتوسط من شتى أشكال التلوث، وإقامة طرق سيارة فائقة السرعة برية وبحرية، والعناية بالوقاية المدنية، بالتعليم العالي والبحث العلمي، وبالطاقات المتجددة والبديلة...الخ.

إلا أن موجة ما سمي منذ العام 2011 بانتفاضات الربيع العربي قد فاجأت العديد من الساسة والمتتبعين، وأبانت على فشل المشاريع الجارية، لا سيما مشروع الاتحاد إياه، وعدم قدرة هذا الأخير على مواكبة مجريات الأحداث، أو التأثير فيها من خلال مؤسساته.

لم يعد ثمة من أثر لأي تنسيق في المواقف فيما بين الدول، أعضاء الاتحاد، إذ أظهرت أحداث الربيع العربي، وموجات الإرهاب المتتالية، جنوح كل دولة عضو نحو مصالحها، بدليل تدخل فرنسا وبريطانيا بليبيا خارج الأجهزة الأوروبية التقليدية، فما بالك بأطر الاتحاد.

ولما كان عنصر الأمن بمنطقة المتوسط هو الهاجس الأول والأساس لدى الاتحاد الأوروبي، فإن انفجار الأوضاع بالضفة الجنوبية قد أدى إلى زعزعة الاستراتيجية الأوروبية برمتها، أو لنقل دفعها لأن تأخذ الواقع الجديد بالجدية المطلوبة. 

بهذه النقطة، يبدو أن الاتحاد الأوروبي لم يعد يبني مواقفه بتنسيق مع الاتحاد من أجل المتوسط، أو من خلال أعضائه وسكرتاريته، بل عاد من جديد إلى مؤسساته الأصلية (برلمانا ومجلسا أوروبيا بالتحديد) ليرسم إستراتيجيته على ضوء المستجدات بالضفة الجنوبية، وليس بالتنسيق مع دولها.
0
التعليقات (0)