مقابلات

مكي: هذا مصير تحقيقات 25 يناير.. ولهذا لن يُدان مبارك (1)

إطلالة نادرة للمستشار مكي منذ الانقلاب- عربي21
إطلالة نادرة للمستشار مكي منذ الانقلاب- عربي21
أواخر عهد الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، خرجت حركة كفاية لتقول له: "لا للتمديد.. لا للتوريث". وتزامن مع بروزها تظاهرات سياسية حاشدة وائتلاف القوى السياسية مع بعضها، لكن ما مثّل علامة فارقة في الاحتجاج ضد سياسات مبارك؛ دخول القضاة على خط الرفض حتى وإن انحصر الحراك في الواقع القضائي، وبرز اسم قضاة "تيار الاستقلال" الذين أصبحوا رموزا شعبية، وإن لم يقصدوا مخاطبة الشارع كمناضلين سياسيين.

كان أحد الرموز المعروفة المستشار أحمد مكي الذي كان نائبا لرئيس محكمة النقض التي تمثل قمة الهرم القضائي المصري، واستمر قضاة تيار الاستقلال في فضح تزوير الانتخابات والتوعية بمخاطر القوانين المقيدة للحريات.

عقب نجاح ثورة 25 يناير 2011 في إسقاط مبارك، لم يكن مستغربا أن يصير أحد رموز تيار الاستقلال وزيرا للعدل، وتم تكليف المستشار أحمد مكي في آب/ أغسطس 2012 بالوزارة التي قضى فيها تسعة أشهر تقريبا؛ من عمر التجربة الرئاسية المنتخبة للمرة الأولى في تاريخ مصر الحديث.

عقب اختيار مكي تطلّع الناس لتحسين منظومة العدالة المهدرة في مصر، وتطلع المثقفون لاستقلال القضاء، لكن تجربة مكي لم تستمر بسبب أحوال الدولة والتربص من قِبل الأجهزة ضد التجربة ككل، والخلاف المتصاعد مع أنصار الرئيس الذين طالبوا بعدم التجديد له كوزير للعدل، وعقب تركه للوزارة بشهرين سقطت التجربة الديمقراطية كلها.

اختار المستشار مكي الذي بلغ عامه السادس والسبعين؛ أن يرتاح في مزرعته الخاصة بمدينة كفر الدوار، بالقرب من محافظ الإسكندرية، وقرر أن يهجر المدينة بصخبها وانفعالاتها، واختار "التأمل" في هذا المكان، كما ذكر.

تنشر "عربي21" على مدار جزأين متتاليين حوارا مفتوحا وشاملا مع وزير العدل الأسبق؛ الذي طلبنا منه أن يذكر شهادته كاملة لحق المجتمع في معرفة ما كان يدور في الكواليس، وكيف يمكن تفادي تكرار ما جرى إذا حدث تحسن في الأحوال السياسية، فتحدث عن تقييمه لتجربة الإخوان ورؤيته للحالة القانونية والقضائية الآن، وكيفية الخروج من المأزق الحالي للبلاد، والموقف القانوني للرئيس محمد مرسي، كما تحدث عن رؤيته لانتخابات 2018 وقضية قتل المتظاهرين وغير ذلك من الأمور التي شغلت حيزا واسعا من الرأي العام في مصر.

وتحدث المستشار مكي عما آل إليه وضع القضاء في مصر، واستذكر حواره مع رئيس المجلس العسكري بعد ثورة 25 يناير، المشير محمد حسين طنطاوي بهذا الصدد وموقف مرسي من مطالبته بضبط عملية التظاهر، كما أنه ذكر موقفه من اتفاقية تيران وصنافير.

وتحدث المستشار مكي بصراحة عن موقفه من قضية قتل المتظاهرين التي اتُّهم فيها مبارك ورجاله، وأين ذهب تقرير تقصي الحقائق الذي صدر بعهد مرسي، ولماذا لم يخرج التقرير للإعلام.

وإلى نَصّ الجزء الأول من الحوار:

أحوال القضاء

* كيف ترى حال القضاء الآن؟

- في أسوأ أيامه على الإطلاق، منذ نشأته في 1883 وبما سبقه من مقدمات بدأت في 1867. وطبقا للثابت من مذكرات نوبار المنشورة، فإن الخديوي إسماعيل كان يطمع في مزيد من استقلال مصر عن الخلافة العثمانية، فقال له نوبار باشا إن ذلك لا يمكن إلا بمحاربة السلطنة أو أن يحرص الخديوي على وجود قانون عام تكون له السيادة؛ فيخضع له الخديوي نفسه قبل أن يخضع له الكافة. وشَرْط تحقيق سيادة القانون هو وجود قضاة مستقلين، والقضاة الموجودون حاليا غير صالحين؛ لأنهم نشأوا في ظل استبداد السلطة، فلا بد من استقدام قضاة أجانب يتولون الفصل في القضايا وتدريب القضاة المصريين.. وهكذا نشأ القضاء برعاية من السلطان، حتى أثناء الاحتلال كانت السلطتان المحتلة والمصرية متفقتين على رعاية استقلال القضاء.

ظل الأمر كذلك حتى سنة 1952. يقول الرئيس عبد الناصر إنه لما قامت الثورة، فكّر مجلس قيادة الثورة بالتدخل في القضاء واستعمال قضاة في الفصل في القضايا السياسية، ثم انتهت مداولات المجلس إلى المحافظة على استقلال القضاء والبعد عن التدخل في شؤونه؛ حرصا على بقائه ضمانة أساسية للبلاد، ولكن نعتمد في محاسبة خصومنا السياسيين على تشكيل محاكم خاصة بعيدة عن القضاء.

وهكذا نشأت محاكم الغدر ومحاكم الشعب ومحاكم الثورة.. وطبقا لما يقوله عبد الناصر: "نعمل نفسنا قضاة ونحكم بما نريد، ولا نتدخل في القضاء". هذا ما قاله عبد الناصر حصرا، ولكن في حقيقة الأمر أنشأ عبد الناصر تنظيما من الموالين له داخل القضاء، وظل هذا التنظيم الموالي للسلطة قائما حتى اليوم.

وكان الرئيس السادات رئيسا لهذا التنظيم في عهد جمال عبد الناصر، وتولى رعايته. ورأت السلطة التنفيذية أن استعمال هذا التنظيم في الفصل في القضايا يغنيها عن إنشاء محاكم خاصة. وهذا ما أفرط في القيام به النظام الحالي، فهو يستعمل عملاء السلطة في القضاء لتحقيق أهدافه.

* هل يمكن وصف القضاء بأنه مخترق؟

- نعم، ولكن ليس كل القضاة فاسدين، إلا أن هناك ما يكفي منهم للإساءة للقضاء.

* كان القضاء يثور أيام مبارك وما بعده ضد أي إجراءات تجرى ضده، لكن الآن يعترض القضاء دون قدرة منه على تحقيق نتيجة مع الدولة، فلماذا حدث التباين؟

- الدولة كانت أكثر عقلا في كل تلك العصور، وكنا نعترض والحاكم كان يغضب لكن في حدود. أما الآن فلا توجد أي ضوابط. فمثلا قامت مظاهرات عقب نكسة 1967 وأغضبته (عبد الناصر)، ولم يقم بضرب الناس بالرصاص في الشارع. وكذلك قامت انتفاضة ضد السادات، ومع ذلك لم يضرب الجيش الناس في الشارع، ولم تقم مذبحة كمذبحة رابعة.

قانون السلطة القضائية

* أين ذهب مشروع السلطة القضائية الذي قمت بإعداده بعد ثورة يناير؟

- عطّلته الدولة العميقة. فالمشروع قُدم لمجلس الشعب قبل أن أكون وزيرا، وتم تقديمه أكثر من مرة، سواء في مجلس الشعب قبل حله أم في مجلس الشورى.

* كيف عالج المشروع مسألة استقلال القضاء؟

- كان اختيار رؤساء الهيئات القضائية من الجمعية العمومية لمحكمة النقض وليس من رئيس الجمهورية، وتعيين النائب العام كذلك، وألغى حلف اليمين أمام رئيس الجمهورية، وقرّر إعلان مرتبات القضاة، فالقاضي الذي يجلس على منصة علنية ينبغي أن يكون راتبه علنيا، وأيضا منع انتداب القضاة للمصالح الحكومية.

* وفي ما يتعلق باحتياجات الناس، كسرعة التقاضي؟

- حلوله في قانون المرافعات والإجراءات الجنائية، وزيادة عدد القضاة، ومحاولة إيجاد بدائل كلجان فض المنازعات. وكنت أميل لخفض سن القضاة، ولكن بعد ما حدث أصبح الأمر يحتاج لحكمة.

* ولكنك عارضتَ خفض السن مرتين، أيام الرئيس مرسي والآن!

- لا، أيام د. مرسي قيل سنخفض السن لتطهير القضاء، فكأنك قلت إن كل من هو فوق الستين فاسد، ومن تحت الستين طاهر. فالربط بين تطهير القضاء وخفض السن خطيئة، ولا بد من الفصل بين السن والفساد. وأنا بذلت جهدي في ملاحقة الفاسدين في القضاء بتحريك الشكاوى ضدهم ليتم التخلص من الفاسدين بالأصول القضائية. وعُرضت عليّ فكرة خفض السن مع إعطاء المرتبات لمن وصلوا سن الستين حتى يبلغوا السبعين عاما، فقلت إن هذا ظلم لمن كان في التاسعة والخمسين من عمره، فهذا سيأخذ راتبه لعشر سنوات والآخر لسنة واحدة، وقلت إن المسألة تحتاج حلولا مدروسة، مثل نظام الوساطة القضائية الذي يشبه التحكيم؛ وقدمته لمجلس الوزراء. ورجال المساعدة القضائية وهو مشروع كان تحت الإعداد، فنستعين بالقضاة الذين سيخرجون قبل بلوغ سن السبعين، لكن المراهقة الفكرية هي التي أوصلتنا لهذا. واقتنع د. مرسي، لكن الحزب أصرّ على ذلك وقالوا إنني أعارض التطهير.

قوانين وقرارات السيسي

* بالعودة إلى القوانين الحالية، كيف ترى قانون الإرهاب الحالي؟

- كل القوانين الاستثنائية تمثل مصيبة.

* بما فيها قانون التظاهر؟

- نعم.

* ما الفرق بين قانون التظاهر الحالي وبين الذي كان في عهدك؟

- المظاهرة كانت بالإخطار ولا يجوز للداخلية أن تعترض، إلا إذا ذهبَتْ للمحكمة واستصدرت حكما، ونصّ القانون على عمل حرم حول الأماكن الهامة تصل إلى 100 متر. والمشروع موجود في أرشيف وزارة العدل وأقره مجلس الوزراء. وما دفعني لعمل هذا القانون؛ إغلاق ميدان التحرير لأشهر، وكنت أذهب للاتحادية وأجد أبوابا منه مغلقة، فكنت أقول له: "يا ريّس المظاهرات هتهدّ البلد ولازم نحافظ عليها"، فكان يقول: "ما تسيبها، دي كيلومتر واحد في مصر كلها" ولكنه، كان كيلومترا في الاتحادية.

وكان هذا كلامي منذ أول اجتماع لي في مجلس الوزراء آب/ أغسطس 2012، وكان المشير طنطاوي حاضرا، فوجهت كلامي له قائلا: "أنت تستغرب صدور هذا الكلام من وزير العدل، لكن وزير العدل هو الغِمْد الذي يمنع القوة من أن تَشْطَط، فدوْري الحفاظ على الحقوق، فأنا غِمد ولكنه فارغ يحتاج لسلاح وأنا أغمده". وكان حديثي الدائم أن المحاكم غير آمنة، ولا يوجد عدل بغير أمن؛ ليس لاطمئنان القاضي فقط، ولكن ليطمئن الشاهد في شهادته والخصم في تقاضيه، وكانت الداخلية تدّعي الضعف المفرط.

* هل تم تنفيذ القانون؟

- أقرّه مجلس الوزراء لكنه لم يُنفّذ. وكان الإعلام يصوّر كل محاولة إصلاح بأنها مصيبة، وكمية الافتراءات التي تعرضت لها أثناء وزارة العدل كانت كبيرة، وكذلك ما تعرض له مرسي.

* هل كان يخاف الرئيس مرسي من الإعلام؟

- لا بد أن يعمل حسابا للإعلام والرأي العام.

* بخصوص القرارات الإدارية الصادرة في العهد الحالي، كيف ترى سلوك الدولة في قضية كتيران وصنافير؟

- الاتفاقية أصلا مخالفة للدستور بعيدا عن الحكم، ورغم أنني مقتنع بالحكم ومصرية الجزيرتين، إلا أن الاتفاق على أمر يترتب عليه سماح بمرور إسرائيل أمر يتعلق بالسيادة، ولا يجوز بالدستور تمرير أمر يتعلق بالسيادة إلا بالاستفتاء عليه.

* هل التفاف الدولة التفاف قانوني أم سياسي؟

- لا يوجد في مصر قانون.. القانون هو ما يراه الرئيس، فلا يوجد قانون بعزل رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، فنحن نُحكم بغير قانون، والقانون هو إرادة السلطان.

الدستور المصري

* وبالنسبة للدستور؟

- لا يوجد دستور أيضا، أليس الدستور هو الذي منع المساس بالأجهزة المستقلة وصدر قانون يخالفه؟ وهو الذي اعتبر القضاء (سلطة) مستقلة لا يجوز لأي سلطة أخرى التغول عليها وصدر قانون السلطة القضائية، وهو الذي أوجب الاستفتاء على أعمال السيادة؟ وهو الذي أوجب علنية المحاكمات؟

* هل ترى الدستور الحالي جيدا من حيث نصوصه؟

- كل دساتير مصر أحلى من واقعها، وأي دستور يُطبق ويحترم أفضل من الحاصل الآن.

قضية قتل المتظاهرين

* كيف ترى الأحكام التي تصدر قاسية جدا ضد نظام مبارك في الدرجة الأولى، ثم تخفف لتصل للبراءة، كقضية قتل المتظاهرين مثلا؟

- إذا أردت أن تتحدث عن قضية مبارك بذاتها، فأنا أرى أن مبارك لا يمكن محاكمته عن الأحداث التالية لثورة يناير، وجرائمه التي يمكن أن تحاسبه عليها جنائيا وسياسيا هي ما قبل الثورة، كالتعذيب والاختلاسات وتزوير الانتخابات وغير ذلك. لكن في يناير؛ أعتقد أنه عُزل عن السلطة مبكرا، وهو أخذ أفضل قرار في حياته بتخليه عن السلطة، فلم يقم برابعة مثلا.

* ولكن قُتل المئات أثناء الثورة؟

- حدثت اشتباكات مع الشرطة، ولا يمكنك مساءلة مبارك إلا بمساءلة الشرطة، وحيث أن أدلة الشرطة قد طُمست وأخذ عناصرها براءات في تلك القضايا، فمن باب أولى أن لا يُحكم على مبارك، كما أنني لا أظن أنه كان في موقع سلطة بعد خروج الناس.

* إذا كان معزولا فمن قتل الناس؟

- الأجهزة هي أصلا مهيأة لذلك دون انتظار أمر، لكن عموما القضية طُمست ولا توجد أدلة.

* بخصوص قضية قتل المتظاهرين، كان د. محمد مرسي حمّل مدير المخابرات الحربية وقت الثورة، عبد الفتاح السيسي، مسؤولية قتل المتظاهرين وفقا لتقرير تقصي الحقائق الذي صدر في عهده. فأين ذهب هذا التقرير؟

- هناك تقريران صدرا، أحدهما في ظل حكومة شفيق والمجلس العسكري، وهو للمستشار عادل قورة ولا أعرف عنه شيئا، وفي عهد د. مرسي تم تشكيل لجنة أخرى برئاسة المستشار عزت شَرَباش، وسُلم التقرير للرئيس مباشرة، وهو أرسله بدوره للنائب العام المستشار طلعت عبد الله الذي وزّع نسخا مجزّأة من التقرير لكل نيابة وقعت في دائرتها أحداث فتوزعت تلك النسخ، وأعتقد أن تحويله للملفات أحد أسباب تعاظم الحملة ضد طلعت عبد الله.

* ألم تطّلع عليه أو تتسلم نسخة منه؟

- لا فأنا كنت منشغلا بعملي كوزير للعدل؛ أدير أعمال الوزارة ولا علاقة لي بالقضايا.

* ألا تعرف أين وصلت القضايا؟

- هناك قضايا تم تحويلها للنيابة، وهناك قضايا في الأدراج، كقضية الحزام الأخضر التي تحدث عنها المستشار هشام جنينة.

* لماذا لم ينشر الرئيس مرسي هذا التقرير للإعلام؟

- ليس للإعلام علاقة بالتقرير، وعندما تكون في دولة صحيحة لا تخاطب الناس بهذه التقارير، فهي عبارة عن شهادات واتهامات تحتاج للتحقيق، ولا يمكن نشر الاتهامات قبل التثبت من صحتها.

* ولماذا لم يقم الإخوان بإذاعة التقرير بعد ما جرى في تموز/ يوليو 2013؟

- إما خافوا، أو تم التحفّظ عليهم.

(لقراءة الجزء الثاني من المقابلة اضغط هنا)
التعليقات (0)