كتاب عربي 21

رسائل مشفرة إلى "حماس"

جمال الجمل
1300x600
1300x600
(1)
لأنني إنسان ضعيف، فقد وجدت من الملائم أن أحترم الضعف، ولا أستسهل لوم المنسحبين، ولا أكتفي بإلقاء المواعظ على المهزومين في لحظة إعلانهم للعجز، فبعد تدريب طويل على معاشرة الهزائم والمهزومين صارت لدي تجربة كبيرة في التعامل مع "السقوط".. صارت لدي خلطة إنسانية تقدمية مقبولة، لا أشمت فيها، ولا أصمت أيضاً، لا أنفق الفكر والوقت في تبرير السقوط أو الحديث عن إيجابياته وإغراءاته الوهمية، بل أسعى لفهم الضغوط والدوافع التي أدت إليه، لا أعتبره قدراً نهائيا، بل اعتبره كبوة جواد أو استراحة محارب، حتى لو كانت الاستراحة ملوثة باليأس ومشحونة بأفكار التراجع عن الطريق، ولهذا فقد لخصت خبرتي الخاصة في التعامل مع لحظات الوهن في سؤال تقدمي استطلاعي تحفيزي يقود أفكاري وسلوكي في مثل هذه الأوقات، وسؤالي الأثير هو: ماذا بعد؟.. ماذا يتوجب على "المُتعَب" أو "الساقط" أن يفعل؟.. ماذا يتوجب على حماس أن تفعل في المرحلة المقبلة، بعد أن وقعت عن فرس المقاومة؟

(2)
هذا المدخل الإنساني ليس مقدمة ساذجة تساعد المهزومين على تقبل عار الانهزام، وليس حيلة خداعية لتحويل مسار القضية الفلسطينية من "قضية وجود" ترتكز على مبادئ الحق والإرادة والكرامة، إلى "قضية إعاشة"، فأنا ممن يثقون في أن العدو "العنصري" آخر من يفكر في التعايش، بل إنه يعلن بوضوح عن أهدافه التوسعية على حساب أراضي وتاريخ العرب المنهزمين، ويمارس المحو الجغرافي والديموغرافي ويواصل التهويد وطمس الهوية، ويكرس سياسة الحصار والترحيل وفرض الأمر الواقع بالقوة دون أي اعتبار لقانون دولي أو اخلاق إنسانية، وبالتالي فإن أي حديث عن قبول التفاوض مع ذلك العدو، هو الخدعة التي يجب أن نحذر منها كل الأطراف، وإذا كانت حماس قد عدلت من وثيقتها قبل شهور لتلحق بركب المتعلقين بوهم دولة فلسطينية مجتزأة على حدود الرابع من يونيو، فإن هذا يعني أن نتوقف معها وقفة تساؤلات لا تبدأ بالإدانة بقدر ما تستهدف البحث عن الخطوة الصحيحة المقبلة، بلا مزايدات تاريخية، وبلا إهدار للتاريخ والمستقبل معاً. 

(3)
إذا حاولنا أن نبحث عن المشتركات المسؤولة بين الخطاب الذي يؤيد خطوة حماس باتجاه ما يسمى "المصالحة الفلسطينية" والخطاب الذي يستنكر جرها إلى مائدة المفاوضات على أرضية "توسيع كامب ديفيد"، سنكتشف بالسهولة أن هناك مناورة كلامية حقيرة يتم فيها تسمية الخيانات والتنازلات بأسماء لطيفة، وتغليف "السم الإسرائيلي" بغلاف مكتوب عليه "العسل الفلسطيني"، أنا شخصيا لا أُحَرِّم "المناورات"، بل أطالب بالاستفادة منها وعدم تركها للآخرين يناوروا علينا، بينما نحن لا نناور، ومن هذه النقطة أوجه خطابي التناوري لحماس في عدة نقاط مكثفة حتى لا نتوه ي متاهات اللغة المضللة:

(4)
المناورة الأولى:
لابد من التلميح بدخول مرحلة ذات طبيعة تكتيكية يمكن فيها قبول بعض الخسائر، مع تجنب أي خسائر محتملة في الاستراتيجية، وهذا يقتضي التعامل مع ملف المصالحة وإنهاء الانقسام بترتيب انقسم هندسيا مخططا داخل حماس نفسها، وعدم التعامل معها ككتلة صماء تنقاد وراء أي قرار سياسي مركزي، أو تخضع لظروف وشروط مرحلة الهوان العربي، وبما أن حماس قد حملت على ظهرها حملاً ثقيلا (السلطة السياسية) بعد فوزها في الانتخابات وجرها تدريجيا للتعامل كنظام سياسي أكثر من كونها حركة مقاومة مرجعيتها الشارع والحق الفلسطيني بغير تنازل، وبالتالي تتحول إلى رقم قوي يستخدمه المفاوض في معادلة المجتمع الدولي، وقد ظهر جليا الآن لحماس، أن تحول المقاتل إلى سياسي يضر بالسياسة والمقاومة معا، ولذلك أؤيد حماس في خطوات التخفف أو حتى التخلي عن السلطة، والعودة إلى مسار المقاومة غير المنسوبة لجماعة المفاوضين العرب، لأنهم يبيعون كل شيء على الموائد، وأحيانا في فراش عاهرات الموساد، ومن لا يصدق يسأل تسيبي ليفني. 

(5)
المناورة الثانية
يجب الاستفادة من موجة المديح الإعلامي لمبدأ المصالحة الفلسطينية التي تستهدف توحيد الفلسطينيين في معسكر (دحلان/عباس) لبناء وحدة معسكر المقاومة، وهذا الأمل يجب أن يتجه إلى الشارع الفلسطيني كله، بحيث تتخلص حماس من عيوبها القديمة كتنظيم أيديولوجي مغلق، وتنفتح على الهم الفلسطيني العام، وتعيد تقييم موقفها من الثقافة والفن والشعر والموسيقى كروافد تقليدية راسخة في مسيرة المقاومة الفلسطينية، وهي الروافد التي تضررت كثيرا بعد سيطرة حماس على غزة، كما يجب تدشين طريق لتوحيد فصائل المقاومة بمفاهيم عصرية تستوعب مميزات وأخطاء المقاومة لدى الشعوب، فليس من السهل الآن إعادة نموذج منظمة التحرير في فلسطين، أو الجيش الثوري في كولومبيا، لكن هذا لا يعني أن كلمة "المقاومة" قد تم حذفها من قاموس النضال الشعبي. 

(6)
حتى لا أطيل وأتشعب بالحديث، أريد أن أنبه بوضوح لضرورة الاستفادة من اتجاه المصالحة وإنهاء الانقسام، ليتخذ مسارا نحو المصالحة والتوحد على طريق الحق الفلسطيني، وليس على طرق التنازلات، ولهذا فإن مهمة إحياء الذاكرة الفلسطينية، واستعادة وهج القضية في الصدور، تبدو لي الآن في وضع يسمح لها بالانطلاق وتحقيق نتائج عظيمة، لأن الفكر السلطوي العربي سينصرف للتركيز في الإجراءات المطلوبة من حكامنا باعتبارهم موظفين لدى الإدارة الأمريكية والإسرائيلية، ويمكن أن يلعب الجناح السياسي من حماس (بعد تفرغه من مهام الإدارة وتبعات الحكم) دور حصان طراودة، لكنه لا يجب أن يقود الفعل الحقيقي للمقاومة على المسار الشعبي، فهذا دور آخر، أتعشم أن يولد، وأتعشم ألا نعرف أسماء قادة هذا الاتجاه، وأتعشم ألا يلعبوا دورا في السياسة الرسمية، ولا يتعاملوا مع الإعلام، فالعودة للشارع الفلسطيني هي الأمل الباقي.

وأرجو أن تصل الرسائل المشفرة لأصحابها الذين نعرفهم ولا نعرفهم.

عاشت فلسطين عربية

عاش نضال الشعوب   


* جمال الجمل
[email protected]
0
التعليقات (0)