قضايا وآراء

مصر التي في خاطري

عبد الله الأشعل
1300x600
1300x600

عندما غنت أم كلثوم لمصر، كانت تقرر حقيقة واقعة.. أما عنوان هذه المقالة فهو حلم قد لا يتحقق في أجيال قليلة قادمة؛ بسبب المعادلات التي حكمت نظام الحكم في مصر، وربطت بينه وبين الحسابات الإقليمية والدولية، خاصة أن كاتب المقال يعتقد اعتقادا جازما بأن مصر التي يحلم بها تقف إسرائيل لها ولهذا الحلم؛ لوأده في مهده بطرق مختلفة، ولذلك فإن حلمي بالنسبة لمصر -إن تحقق في غفلة من إسرائيل والغرب- فإنه سوف يسهم في إعادة رسم الخرائط.

ولذلك، فإن الاتجاهات التي ظهرت في مصر، وتطالب بمحور مصري إيراني تركي، تهدف إلى تحقيق هذا الحلم، بعد أن تسللت إسرائيل وراوغت العقل العربي المنهك بالاستبداد والمؤامرة والزيف، وقوامه أن إسرائيل هي رسول الديمقراطية ونموذج الرخاء في المنطقة العربية، وفي القلب منها إسرائيل.. وهذا الحلم المراوغ قدمته إسرائيل مرارا على أساس التزاوج بين العرب وإسرائيل، على فرض أن إسرائيل تلتهم كل فلسطين، وأن التضحية بفلسطين يقابلها السلام الأبدي والرخاء المضمون. وهذا هو الوهم الكبير الذي روجه بعض الحكام العرب، خاصة الرئيس السادات الذي بشر المصريين بأنهار العسل، وعصر الرخاء والحرية، عندما وقّع صفقة كامب ديفيد، المسماة خطأ وزيفا "معاهدة السلام"، والتي أنتجت لمصر وللعرب أشواكا تحاول القضاء على الوجود العربي.

ولهذا، فإن معضلة إسرائيل في حلم الكاتب لمصر يجب أن تعالج بشكل لا يستسلم للواقع البائس، ولا لأحلام اليقظة لبعض الحكام الذين يجهلون طبيعة المشروع الصهيوني.

فمصر التي في خاطري لها ملامح وأوصاف لا بأس من إيرادها، لعل أجيالا أقدر منا تستطيع أن تحقق هذا الحلم الذي يتباعد ولا نكاد نرى منه إلا أحلام اليقظة.

والحلم لمصر جسّده حافظ إبراهيم عندما جعل مصر تتحدث عن نفسها. وقد رأينا مصداق ذلك في أيامنا: "أنا إن قدر الإله مماتي – لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي". أما ملامح مصر التي أحلم بها، فهي صورة الدولة العادية التي سيء بها بلا مبرر، لأن مصر تملك جميع عناصر القوة والعظمة، ولكن عدم استخدام هذه العناصر بشكل إيجابي باعد بين واقع مصر الحالية وبين حلم الكاتب.

شعرت بالأسى لأجيال من العباقرة الذين كانت تراودهم هذه الأحلام لمصر، ولكنهم أكرهوا على تركها وماتوا في الغربة

وقد شعرت بالأسى لأجيال من العباقرة الذين كانت تراودهم هذه الأحلام لمصر، ولكنهم أكرهوا على تركها وماتوا في الغربة، وقلوبهم تنبض بحبها وتأسى على تقصيرهم في تحقيق حلمهم لها. كما أن العباقرة الذين اختاروا البقاء فيها يتأرجحون بين الضيق بأوضاعها وبين اليأس من إصلاحها، خاصة وأن عشرات العوامل تجر مصر إلى الخلف، حتى صارت في وضع لم نكن نتمنى أن يكون في أسوأ كوابيسنا.

ومصر الحلم هي مصر التي تتصف بالصفات التالية:

أولا: دستور يُجمع عليه الشعب بإرادته الحرة، ولا يكون دستور الحاكم يضعه ثم يخترقه لكي يثبت للعالم بأن حكمه شرعي. وحتى في مصر الملكية، كان الدستور منحة من الملك؛ ولذلك كان الصراع مستمرا بين الرجال في مصر، نيابة عن الشعب، وبين الملك، على احترام الدستور. وكان للعقاد موقف مشهور في ذلك.

والدستور عادة هو المرجعية العظمى التي تحقق آمال الشعب، وتنظم أوضاع السلطة، وتقدم الضمانات للحقوق والحريات، وتجعل الشعب هو مصدر السلطات ومصدر السيادة. ولكن تحايل السلطة في مصر تاريخيا على الدستور، وانتهاكه، جعلت القوة والأمر الواقع فوق إرادة الشعب الذي لم يتمكن حتى اليوم من التعبير الصحيح عن إرادته الحرة، سوى في فترة قصيرة حققها المجلس العسكري بعد ثورة 25 يناير، رغم أن مصر لم تكن بحاجة إلى دستور جديد، ولكنها دائما بحاجة إلى احترام السلطة للدستور القائم.

ثانيا: سيادة القانون الذي تضعه سلطة منتخبة انتخابا حرا احتراما لأحكام الدستور، فليس إصدار التشريعات بما يخالف الدستور ولخدمة أغراض معينة، هو القانون.

ثالثا: الفصل بين السلطات ثم التعاون بينها لتحقيق الأهداف العليا للوطن، ويترتب على ذلك أن المتهم يظل بريئا حتى تثبت إدانته في محاكمة عادلة، وفقاً لقانون عادل وقضاء مستقل، وأن يحتكم القضاة إلى ضمير مهني والتزام ديني أساسه تلك الآية التي تزين مقعد القاضي وراء ظهره: "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل". ويترتب على ذلك أيضا أن الشرطة تحترم القانون، وأن يكون رجالها قدوة في احترامه تحت رقابة صارمة من أجهزة الوزارة والرأي العام والإعلام، وأن تكون النيابة سلطة تنقية تحقيقات الشرطة، وإذا قررت النيابة تحويل القضية إلى القضاء كان القضاء هو حائط السد للعدالة ودولة القانون، بحيث يطمئن المتهم إلى عدالة حقيقية، فيسعد ببراءته، ويرضى بحكم الإدانة ما دامت مراحل العدالة سليمة.

كذلك نحلم بأن السلطة التنفيذية تحترم السلطات الأخرى، وأن يقوم البرلمان بدوره المرسوم في الدستور، وأن يكون القانون الذي يصدره البرلمان ملزما للجميع، وأن يحترم الجميع حكم القضاء المستند لهذا القانون، وأن يسود العدل والمساواة وتكافؤ الفرص وكفالة الحريات والحقوق ورفع مستوى المجتمع، كما يرتفع مستوى السلطة في المصداقية والأداء، وأن تكون الكفاءة وحدها هي معيار الوظائف العامة .

رابعا: موارد الدولة: مصر دولة غنية بثرواتها الفريدة، وخاصة الثروة التاريخية، والثروة البشرية، والثروات الطبيعية، والثروات الناجمة عن الموقع الجغرافي. ولذلك، أحلم بمصر التي تدار فيها الموارد إدارة رشيدة نزيهة، وأن يكون الإنسان وشعوره الوطني هو حجر الزاوية في فلسفة الإدارة. فبغير الإنسان المصري تفنى مصر، ولكن تحيا مصر بأبنائها الأحرار وليس بالشعارات.

ولذلك، فإنني أحلم بأن تكون مصر واحة الأمان والاستقرار، بعد أن تكون المؤسسات جميعا في أماكنها، وأن يكون الحكم لمن يختاره الشعب وحده، وأن يكون الحاكم عرضة للمساءلة والحساب، وأن يختفي النفاق والدجل والانتفاع بسلوكيات أصبحت تسيء إلى مصر وإلى شعبها. ولا نفصل في ذلك، فالأمر أوضح من أن يفصل.

مصر لا يمكن أن تقارن بغيرها في أي مجال، ولم تظهر المقارنة إلا في السنوات الأخيرة التي أصبحت فيها مصر بحق رجل المنطقة المريض

خامسا: الاقتصاد المصري والعلاقات الخارجية.. فإذا كانت مصر غنية بكل مكوناتها، فإنها جديرة بإقامة اقتصاد بالغ القوة ترتكز إليه قوة الدولة في رخائها وأمنها وتجارتها وتنوع منتجاتها، ومنافستها لغيرها في جميع المجالات الإيجابية.

ولم يكن هذا الحلم في فراغ، فقد كانت مصر كذلك حتى عصر الملكية، بل كان الجنيه المصري يتفوق على جميع العملات الأوروبية، وكانت القاهرة أنظف مدينة في العالم، وكان الأوروبيون يأتون في مراكب سرية للعمل في مصر. ولذلك أحلم بأن يعود كل أبناء مصر من المنافي والمهاجر إلى أحضان وطنهم، وأن تقوم إدارة رشيدة بوضعهم في دورات الإنتاج والبناء، وأن يعود العلماء إلى وطنهم بعد أن يوفر لهم المناخ الملائم لتقدير العلماء والاستفادة من علمهم، بدلا من استنزاف هذه العقول النيرة لصالح دول أخرى تتآمر على مقدرات مصر وتبعيتها.

ومع احترامنا لكل الوحدات القائمة في العالم العربي، فإن أما السياسة الخارجية، فهي حاصل عناصر قوة الدولة، ولا يمكن أن تنشأ سياسة خارجية في الأحلام وحسب الأهواء، لأن المجتمع الدولي مزدحم بالقضايا والدول، ومن لم يسارع إلى تحقيق القوة لدولته، وأولها تماسك المجتمع وشفافية الحكم ومصداقية أدواته وإعلامه، فإن السياسة الخارجية تصبح موضوعا للإنشاء وليس سلوكا. لدولة ومصر تستحق أن تكون دولة عظمى في منطقتها ليس بالأقوال، ولكن بالسلوك.

جميع مشاكل مصر الداخلية والخارجية، ترجع أساسا إلى غياب الرؤية الصائبة والإدراك الحقيقي لقدرات مصر ومقدراتها، وعدم سلامة الإدارة في مفاصل الدولة

ولا يخفى أن جميع مشاكل مصر الداخلية والخارجية، ترجع أساسا إلى غياب الرؤية الصائبة والإدراك الحقيقي لقدرات مصر ومقدراتها، وعدم سلامة الإدارة في مفاصل الدولة، واتجاه بعض المؤسسات إلى الهيمنة على مقدرات الدولة، وغياب الإرادة الحرة للمواطن.

وإذا تحققت هذه الأمور، فلن يكون في مصر معتقل أو سجين، وتزدهر الحريات، وتصان الحقوق، وتزدهر المؤسسات، ويصح الإعلام، ويشعر المواطن في وطنه بالأمن والحرية والسلام، وتصبح مصر سندا لمنطقتها وللسلام العالمي، وتعود مصر مرة أخرى في صدارة المؤشرات العالمية لأوراق القوة.

ولن يتحقق ذلك إلا إذا عاد المصريون إلى وعيهم، ونبذوا مصالحهم الشخصية الضيقة، واستعادوا العقل المصري النيّر، الذي يعتمد على العلم والثقافة، وليس التدليس والتجهيل وتغييب العقل وتسطيح الأمور.. وتلك دعوة إلى كل المصريين دون استثناء، وهي مسؤولية الحاكم والنخب، وفي رقابهم مستقبل الشعب، الذي ينتظر الطريق الصحيح إلى المستقبل.

0
التعليقات (0)