كتاب عربي 21

أين ذهبت جماهير الثورات الهادرة؟

محمد هنيد
1300x600
1300x600

من أكثر الأسئلة إلحاحا اليوم، على كل مراقب للوضع العربي الراهن، هو السؤال المتعلق بالغائب الأبرز عن المشهد الآخذ في الاشتعال.. هذا الغائب هي جماهير الشعوب العربية التي تمثل المكون الأكبر في المشهد العربي، سواء بعددها أو بوزنها الاجتماعي والحضاري والتاريخي.

لا أحد يستطيع أن ينسى أمواج الجماهير الهادرة في الشوارع والساحات خلال ثورات الربيع العربي العظيمة، ولا أحد يستطيع أن ينكر النشوة السحرية التي ضربت كل فرد في أوطان العرب من المحيط إلى الخليج؛ وهو يرى المارد العربي يخرج من تحت الرماد. لقد نجح الطوفان الشعبي العارم للفقراء والمعطلين والمحرومين والمسحوقين؛ في دك صرح الاستبداد الجاثم على رقاب الشعوب، وأسقط في وقت قياسي أنظمة كنا نعتقد عقودا أنها عصية على السقوط.

 

بعد لحظات الثورات السحرية وما تبعها من إنجازات ترتقي إلى مطاف المعجزات، نقف على وضع آخر فريد يتميز أساسا بالغياب التام تقريبا لصانع المعجزات نفسها

لكن اليوم، وبعد لحظات الثورات السحرية وما تبعها من إنجازات ترتقي إلى مصافي المعجزات، نقف على وضع آخر فريد يتميز أساسا بالغياب التام تقريبا لصانع المعجزات نفسها. صحيح أن بين المشهد الأول والمشهد الثاني تظهر ضربات الثورات المضادة وجرائمها في حق الثورة والثوّار، بعد أن نجحت الدولة العميقة في امتصاص الصدمة الأولى، وفي العودة إلى المشهد من جديد، خاصة بعد الانقلاب المصري الدامي والمذابح التي تبعته.. لكن السؤال يبقى عالقا ويتناسل: أين ذهب أولئك الذين صنعوا ربيع العرب؟ أين اختفوا؟ ما السبب وراء اختفائهم؟ لماذا لا يعودون إلى المشهد؟

الثابت الأكيد هو أن الإجابة عن السؤال تتطلب مساحة كبيرة لتفكيك الأسباب العميقة التي صنعت ربيع الشعوب أولا، ثم شرح الأسباب التي مكنت الثورة المضادة من الانتصار مرة أخرى. لكن يمكن رغم ذلك؛ رسم أهم الأسباب القادرة على تفسير الغياب الكبير للشعوب العربية عن الفعل السياسي والحضاري اليوم، في الوقت الذي تسطر فيه مصيرَها أنظمة استبدادية جاثمة على رقابها منذ عقود.

من الصحيح القول إن لحظة انفجار الثورات كانت لحظة استثنائية في التاريخ الحديث لشعوب المنطقة، إذ لم تشهد الدول العربية زلزالا قاعديا مثل الزلزال التونسي الكبير. صحيح أيضا أن الثورات أنجزتها مجموعات بشرية صغيرة مقارنة بعدد السكان في هذه الدول.. صحيح أيضا أن الثورات المضادة ارتكبت أخطر الجرائم وأبشعها في حق الثورات التي سرعان ما نجحت في ربطها بالإرهاب والإرهابيين، وصارت الثورة في العقل الجماعي صنوا للفوضى والجريمة والقتل وانعدام الأمن وانهيار الاقتصاد واستشراء الفساد.

 

لقد فشلت الثورة والثوار في استئصال جذور النظام القديم في تونس ومصر وليبيا، واكتفت بإسقاط واجهة النظام


لقد فشلت الثورة والثوار في استئصال جذور النظام القديم في تونس ومصر وليبيا، واكتفت بإسقاط واجهة النظام، وهو الخطأ الكبير الذي مكن الدولة العميقة من الإطاحة بالحلم الثوري، ومن تحويل ربيع الشعوب إلى ربيع الثورة المضادة.

إن أعظم الإنجازات التي حققتها الثورة المضادة إنما تتمثل في قدرتها على تشويه الثورة وعلى شيطنتها وشيطنة القائمين بها، وتصويرها مؤامرةً خارجية تستهدف تدمير الأوطان وبث الفتنة وتفتيت المجزأ، وغيرها من الشعارات والاتهامات التي صاغها العقل الانقلابي العربي وأبواقه الإعلامية.

كل هذه الانتكاسات، سواء تلك التي صنعها الثوار، أو النخبُ السياسية التي استلمت الحكم بعد الثورات مباشرة، كانت انتكاسات قاتلة؛ لأنها شكلت الجسر الذي من خلاله سربت الثورة المضادة مخالبها القاتلة التي ذبحت بها الثورة والثوار. إن أهم جرائم الثورة المضادة لم تكن في حق السياسيين والمعارضين والنخب العربية ككل، بل كانت أولا وأخيرا في حق الشعوب التي قامت بالثورات، ونجحت في تحقيق ما عجزت عنه الأحزاب السياسية طوال تاريخها الطويل من الإيهام بمقارعة الاستبداد.

 

تركت النخب العربية المجال فسيحا بعد نجاح الثورات؛ لتوغل القوى المعادية للثورة، سواء منها الداخلية أو الخارجية


كسرت الجماهير العربية جدار الخوف، ومزقت الأغلال التي كبّل بها النظامُ القمعي وفرق الموت التابعة له؛ وعيَ الشعوب لقرون، فأصابها بالشلل. هذا المنجَز هو في نظر الكثيرين أعظم مكاسب الربيع وأجلّها على الإطلاق؛ لأنه المكسب الذي حرر الوعي؛ أولا، وهو كذلك المكسب الذي أطلق شرارة الفعل الثوري الكبير؛ ثانيا.

لكن لمّا كان الفعل الثوري الانفجاري محكوما بحدود الزمان والمكان، ككل فعل انفجاري، فإنه ما لبث أن ترك المجال للبناء الضروري الذي كان يجب أن يعقبه، كما هو الحال في كل الثورات الناجحة عبر التاريخ. لكنّ ما كان منتظرا لم يحدث في الحالة العربية وهو ما شكّل ضربة قاتلة للمنجز الثوري برمته.


لقد تركت النخب العربية المجال فسيحا بعد نجاح الثورات؛ لتوغل القوى المعادية للثورة، سواء منها الداخلية أو الخارجية، ممهدة للانقلابات التي كانت تطبخ على نار هادئة في دوائر القرار العالمي. إن تشرذم النخب العربية وزيفها، ودعمها الخفي للاستبداد، هو الذي جعل النظام يولد من جديد، وبشكل أكثر شراسة وتوحشا، كما هو الحال في مصر وسوريا وليبيا.

إن توحش الدولة الاستبدادية الجديدة، وحجم الجرائم التي ارتكبتها في حق الشعوب، إنما يمثل إطارا جديدا لإحياء النظام القمعي العربي من رماد. هذا التوحش هو علاج الصدمة الذي كان يسعى إلى تحقيق أقصى قدر من الرعب الشعبي والإرهاب الاجتماعي، بالشكل الذي ينسف كل إمكانية لنشأة موجة ثورية جديدة.

 

التجارب الثورية في التاريخ تؤكد أن الثورات لا تتشكل دفعة واحدة، بل هي جملة من التراكمات التي يصنعها الوعي الشعبي القاعدي حتى تبلغ مرحلة الانفجار الأخيرة


حينها، وحينها فقط، يصبح الزمن السابق للثورة زمنا ورديا بالمقارنة مع الواقع الجديد الذي أعقب الثورات، كما هو الحال في سوريا وفي ليبيا وفي مصر وفي تونس. هذا الواقع الجديد الذي خطّته خناجر الثورة المضادة هو أعلى مطامح الاستبداد التي تجعل من الحكم الاستبدادي حكما مقبولا، بل وقدرا مفروضا على شعوب هذه الأمة وجماهيرها.

إن كل التجارب الثورية في التاريخ تؤكد أن الثورات لا تتشكل دفعة واحدة، بل هي جملة من التراكمات التي يصنعها الوعي الشعبي القاعدي حتى تبلغ مرحلة الانفجار الأخيرة. إن ثورات الحرية العربية لم تكن غير الموجة الأولى التي زعزعت هيكل الاستبداد العربي، وأحدثت فيه شرخا عظيما، وهي موجة ستعقبها حتما موجات كبيرة؛ تستفيد من وعي التجربة الأولى، خاصة وأن كل شروط الانفجار الكبير قد اكتملت واستوت في ظل وضع عربي شديد القتامة والانهيار.

التعليقات (6)
بشير
الجمعة، 09-02-2018 06:12 م
لماذا غابت الجماهير التب احتضنت العصيان ضد الاستبداد ؟ ببساطة لأن هذه الجماهير اضطدمت بغياب عنصر القيادة الذي يمكن أن يحفظ مكاسب العصيان ، في مصر استلم المشعل الإخوان ، هل كانت قيادة الإخوان حاضرة ورائدة قصد الحفاظ على المكسب ؟ هل تم التحضير مسبقا لمثل هذا الاستحقاق ؟ أبدا ، والدليل هو انخداع قيادة الإخوان بشخص عبد الفتاح السيسي ، والاكتفاء بملازمة ساحات الاعتصام على مدار شهر الصيام . والاستسلام المبكر لعملية التشويه التي قادها الإعلام وأسندتها أذرع الطغيان . ثورة الجماهير كانت حدثا استثنائيا لم يتوقعه أحد من قريب على أقل تقدير ، والرد عليها من طرف الحاكم المستبد ببشاعة كان متوقعا ، كما هو الالتفاف حولها وتفويت الفرصة ، خصوصا وأن تجربة الجزائر بخصوص الرد والتشويه والالتفاف لم تكن بعيدة . بالنسبة لتونس لم يتوقع أحد خروج الحاكم بتلك الطريقة ، لا الشعب ولا المقربون من زين العابدين بن علي ، ولا حتى الدوائر الغربية بما فيها دوائر الاستخبارات . الشعوب بمثابة الخزان ، لكن ملء الخزان والمحافظة على محتوياته ليس استثناء ولا ينبغي مقاربته بمجرد الانتظار على قارعة الطريق . إن السبب الرئيس هو غياب عنصر القيادة التي تقارب الحل حضاريا ، المشكلة أن القيادة كانت قيادة شعارت همها الوحيد هو المناسبات الاحتفالية والإشهارية وتمجيد الماضي التليد والتفاخر به ، لذلك ولذلك لم تصمد هبة الشعوب طويلا أمام مكر وخبث دوائر الاستبداد التي ارتبطت مبكرا بعد الاستقلال المزعوم بدوائر الاستعمار القديم . مثل هذا الموضوع يحتاج منا ومنك الاستاذ محمد هنيد عملا مخبريا يتوخى أسلوب الحفريات ضمن وسط تاريخي ملائم . شكرا والسلام .
mike
السبت، 25-11-2017 04:27 م
الانتفاضه الشعبية الفاضحة الكاشفة المباركة....... ان اهم ما برهنت له تلك الانتفاضات ان امتنا شعوب حية تتمايل مع الرياح ولكنها لا تنكسر بحمد الله وان كل ما تتهم به من عدم وعي وادراك هو كلام مردود فهذه امة لسانها وفهمها كلمات الله عز وجل ........ فمن اهم انجازات تلك الانتفاضات وهي عديدة ولكني ساقدم لك بعضها.......1-انها كشفت زيف ما يسمى بالفكر القومي2-انها كشفت حقيقة التضليل الممنهج التي تغنت به الانظمة عن سيادتنا واستقلالنا.فقد اتضح لنا اننا لسنا مستقلين ولا اصحاب سيادة بل مربعات امنية مستعمرة.3-ان المستعمر استطاع فرض امر واقع يتعامل مع مصالحه وليس مصالح الشعوب وهذا ما اوجد الخلل4-انظمة ومؤسسات داخل مربعات امنية كل منها داخل حدودها التي رسمها دربت وجهزت لقمع اي انتفاضة 5----وهنا الاهم معارضات ورموز لها تحمل شعارات وايدولجيات مختلفة لا تصارع الواقع الذي فرضه المستعمر بل تزاحم عملائه على السلطة.6-معارضات جاهزة لركب اي انتفاضه لاخراجها من مضمونها محاوله اعادتها الي حظيرة الطاعة.... المشكلة ان اهداف ما انتفضت له تلك الشعوب وظاهرها عفوي مطالب للحريات والعدالة والعيش الكريم لم يتحقق هذا مما سيبقي المشكلة مشكلة تنفجر في اي لحظة لتصل الي اهدافها... حيا الله تلك الشعوب التي هي عثرة مع انها ليست منظمة امام مشروع استعباد الشعوب فشعوبنا التي توصف بالهمجية هي التي ستفرض تفكيك منظومة الاستعمار
jamal ali
الجمعة، 24-11-2017 10:50 م
الشعوب العربيه هي الحاضر الغائب في هذه الاحداث فقد انقسمت تلك الشعوب بين مستفيد مما يحدث نوع اخر استمرا حياه الذل والعبوديه نوع اخر ينتظر ويراقب من بعيد وهذا النوع لا يفرق بين هذا وذاك انواع اخري تجري خلف القبليه وتري فيها المنقض البقيه الباقيه والثابته علي المبدا تامر عليها الجميع وضعت في الزاويه الكل يري فيها هي سبب البلاء هذا كل يرجع للتجهيل الممنهج للشعوب والذي استمر لعقود فلا تعجب عندما تري شخص يفضل حياه الاستعباد علي حياه الحريه فما العمل وما الحل ما اراه لن ياتي الحل الا بمعجزه فقد يبدل الله النفوس من حال الي حال ليعي الجميع ان المستقبل في حريه هذه الشعوب وان تتجهه القله المؤمنه بهذه المبادئ لتنشر الصحوه وهذه المفاهيم التي لا يختلف عليها كل من له عقل ويحمل بين جنباته وعيا لما حدث في كثير من بلاد العالم بين تلك الفئات المغفله المغيبه ليكون الجميع في نفس المستويق
منصور بريمة
الجمعة، 24-11-2017 04:05 م
الشعب التونسي لم يقم بثورة قام بتبديل السروج البالية بجديدة من نفس المصنع
مصري جدا
الجمعة، 24-11-2017 03:49 م
الجماهير الهادرة اشبه ما تكون بعربات القطار الطويل الممتد خلف قاطرة تتمتع بقوة دافعة هائلة ،، القاطرة هي النخبة الوطنية التي تقود الحراك والحركة ،، وغياب هذه القاطرة في سجون الانظمة من الطبيعي ان يجعل عربات القطار تقف دون حراك او حركة ،،، لا يمكن للجماهير ان تتتحرك من تلقاء نفسها الا في حالات الفوضى وهي تمثل خطورة على الجميع ،،، الانظمة تعي هذا جيدا لذا فانها تحتجز القاطرة حتى لا يتحرك القطار ،،، من اخر كلمات السيسي في المنتدي الدولي للشباب في شرم الشيخ يقول بالحرف الواحد مخاطبا المصريين ،،، اذا اتحركتم البلد ستقع ،،،