كتاب عربي 21

2017 شكرا

جمال الجمل
1300x600
1300x600

(1)
استقبلته بالعزم على التغيير، وأشهرت في غرته رايات التفاؤل والرغبة في "ميلاد اختياري جديد"، لكنه طغى وبطش، قمع وسجن وأعدم، حاصر وحجب ومنع، نفى وأخفى، أفقر وأذل، أهدر الأرض وأفرط في الديون، وفرّق بين المرء وخلانه وأهله وأحبابه. فعل الكثير من المساوئ، لكنه لم يخل من أمل غامض، ولم يتبرأ تماما من علامات التغيير.. إنه عام 2017 الذي يوشك على الرحيل، مفسحا الزمان لعام جديد أبدأ بالتحديات نفسها، وبالتفاؤل نفسه، وبالعزم ذاته، وبتلك الرغبة الجارفة التي لا أسعى للتخلص منها أبداً.. رغبة الميلاد الاختياري المتجدد.

(2)
في مطلع 2017، كتبت مقالا بعنوان "بداية جديدة"؛ سألت فيه: هل يمكن أن تتجاوز مصر كل هذا العته والتخلف والتسلط الذي تغرق فيه؟ وهل يمكن في لحظة فاصلة أن تعزم أمرها على "بداية جديدة" لا تدخلها حاملة الأطلال والأشلاء، بل حالمة بالمستقبل والوطن المنشود؟

وقلت إن السؤال لطيفٌ وبريء، لكنه متكرر للدرجة التي تجعل من لطافته مللاً بغير تعلم، تجعل من براءته سذاجة بغير نضج، ومع ذلك فإنسان وجودي حالم مثلي لا يزال يتعلق ببقايا هذه الفرص النادرة، فأنا من المؤمنين بفكرة "الميلاد الاختياري"، وبقدرة الإنسان على تقرير مصيره في أي لحظة بالطريقة التي يراها، بحيث يضع خطاً فاصلا بين حياة كانت، وحياة يجب أن تكون.

(3)
كنت أطمح لأن يدرك كل منا في لحظة بدايات العام الملهمة؛ أن حياتنا ليست على "ما نرغب"، لذلك يجب على "من يقدر" أن يقرر في لحظة وعي مغاير استبدال الكثير من سلوكه ومفاهيمه لصالح خيره وخير الناس من حوله، وهذا هو سر عدم يأسي من الإصلاح، ومن عودة العدل، ومن انتصار الحق. فقد يكون الظالم الذي ندعو الله أن يخسف به الأرض، هو المنصف الحامي بعد توبته وصلاح أفكاره وسلوكه، لذلك لا أحب أن أدعو على القوي الظالم المتغطرس: الله يحرقه، بل أدعو له: الله يهديه ويصلح حاله ويسخره لخدمة الخير وحماية الضعفاء.

(4)
هذه الفكرة الخطرة في الرهان على الأمل، تستوجب يقظة شديدة، وإدراك لمظاهر الخير وكوامن الشر، حتى لا ننساق وراء الظالمين متذللين متزلفين، على أمل أن يكونوا منصفين في يوم ما. إذن، يجب أن نردهم عن ظلمهم بقدر استطاعتنا، نغلق في أوجههم طريق البطش والفساد، ولا نقبل به ما دامت صدورنا تستقبل الشهيق وتطرد الزفير، ونفتح أبواب الخير لمن يريد أن يسلك طريق الحق غير مخادع ولا مناور.

(5)
هذه الشروط الصعبة، لن يقدر عليها الجميع، لكنها ضرورة لكل من يقدر عليها، حتى لا نصنف الآخرين في خانة: "ملائكة إلى الأبد"، أو "أعداء إلى الأبد".. فكل إنسان يحمل الخير كما يحمل الشر، ونحن نحتمل الشر إذا كان في حدود الخطأ الذي يقبل التصحيح وعدم العودة إليه، وهذا الاحتمال قد يفتح طريق الخير أمام الشرير، ولا يجعله مضطرا للاستمرار في الشر كطريق بلا بديل، لمجرد تصوره أن الناس لن تتسامح معه.

(6)
إذا حاولنا تسييس هذه الفكرة الأخلاقية المستمدة من الدين ومن الفلسفة، فإنها تصلح كأساس لبناء فكرة المواطنة، كما تصلح كأساس لأسلوب المراجعة السياسية في سنوات ما بعد ثورة يناير، وتصلح أيضا كأساس ومعيار للحكم على جدية فكرة المصالحة الوطنية بين كل فئات الشعب، وتصلح أيضاً كممر آمن للانسحاب من سلطة الضرورة التي فرضتها ظروف احتقان دموي جلب الكثير من الكراهية، ومن التمزق النفسي الذي أضر بالكيان الإنساني، وبالتالي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لبلدنا.

(7)
باختصار شديد، فإن فكرة "بداية جديدة" تعني قياس مقدار الرغبات الفردية والجماعية في "التوبة" بكل أنواعها.. توبة الحاكم عن بطشه واعتماده على قوة العصا بدلا من قوة الفكرة والمبدأ الأخلاقي، وتوبة الفاسد عن فساده وتهيئة المجتمع لطموح الرزق الوفير بالحلال بدلا من الثراء بامتصاص دماء الفقراء، وتوبة الحاقد والكاره والحاسد والكاذب والمنافق، والطماع والجشِع، والعودة، ما استطعنا، إلى أخلاق الحب والرحمة والتكافل والتسامح والتعاضد.

(8)

شعرت قبل نهاية المقال برغبة شريرة في حذفه، فقد وسوس لي شيطاني أنه مقال ساذج، يخلو من الرؤية السياسية الناقدة، ويشبه "موعظة بلاغية" لن يصدقها إلا من يفكر فيها، لكنني أحببت فكرة "الموعظة" حتى لو كانت ساذجة ومكررة، فهي تليق بالبدايات، وبمواسم الفرص الجديدة، وبالأمل في هداية الله لخلقه، مهما بلغ عصيانهم، والأهم من ذلك أنها تنسجم مع فكرة إنسانية غريزية تسكن جميع البشر، من الرئيس إلى الحبيس. فالرئيس يحلم بالمعجزات، ويتصور أنه حقق الكثير منها؛ لمجرد أنه شق الطرق وافتتح مزارع ومصانع ومؤسسات. والحبيس يحلم بمعجزة الحرية في وطن يضيق بناسه وعلى وناسه، بينما أحلم أنا وأمثالي من السذج؛ بدولة دستور ومرجعيات قانونية وأخلاقية تساوي بين أبناء الوطن بصرف النظر عن مناصبهم وأقاربهم وعقائدهم.. وطن يكافئ المجتهدين والشرفاء، ويعاقب المخربين واللصوص.. وطن يسري فيه القانون على الحاكم قبل المحكوم.. وطن ينتصر على كل المعوقات، يضغط على جراحه، يلملم تمزقه وأشلاؤه، يكبر على صغائره، ويمتلك إرادة التوبة.. إرادة "بداية جديدة".

(9)
ها أنا أجدد بداية 2017 التي تعثرت، وأبدأ بنفس التحديات والرغبات والأمل في 2018.. أفتح صدري بكل الحب والتسامح، وأمد يدي بكل الخير والأمل، وأدعو الله أن أجد نفسي مع الوقت واحداً من ملايين عزموا أمرهم على "بداية جديدة" للذات، تصنع "بداية جديدة" لوطن منشود طالما حلمنا به ولم نحصل عليه.

فلنبدأ.. فإن الله لا يغير ما بنا وما حولنا، حتى نغير ما بأنفسنا.

 

[email protected]

التعليقات (2)
حاقد
الخميس، 28-12-2017 10:34 م
هذا حس انساني راقي ورفيع ،،،كثيرون يفتقدون لمثل هذا الحس الأنساني وتلك الصفات،(وانا منهم)،القدرة على التسامح ونسيان الغدر والترفع عن الصغائر والضغائن والعفو حتى مع عدم المقدرة،،،يذكرني هذا الكلام باية كريمة،،في سورة ال عمران (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ? وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)كم نحتاج في عالمنا إلى هذه القيم الشبه مفقودة،، ولكن أيضا الزعماء لم يتركوا لشعوبهم في عالمنا مكان لهذه القيم،(قاتلهم الله أنى يؤفكون) كما قتلوا فينا انسانيتنا ،،وها أنذا أفشل حتى في مسامحتهم بل لا أملك إلا الدعاء عليهم. الله المستعان
احمد
الخميس، 28-12-2017 04:15 م
احسنت