مقالات مختارة

عهد التميمي: الصورة من زاوية أخرى

سامح المحاريق
1300x600
1300x600

عادت الطفلة الشقراء عهد التميمي لتشغل العالم من جديد، تغيرت كثيرا عن صورتها السابقة، التي أظهرتها في مواجهة جنود الاحتلال الإسرائيلي، وهي اليوم على حافة أنوثة قلقة ومرهقة، وأمام احتمالات شتى بأن تعتصر ربيع حياتها السجون الإسرائيلية، ومع ذلك، استطاعت ابتسامتها أن تفشل مؤامرة تلاعب خطرة حاولت إسرائيل أن تستدرج المراهقة الصغيرة للانزلاق تجاهها.

وهبت الشمس والحياة الريفية "عهد" ملامح جرانيتية حادة، وتعمدت إسرائيل أن تحيطها بجنديتين تظهران بملامح هادئة، وكانت إحداهن ببشرتها السمراء تأتي وكأنها تطوق عهد بصورة إسرائيل المنفتحة والمتسامحة، وتحاصر الطفلة الفلسطينية في إطار عنصري غير متسامح، وبابتسامة صغيرة ومرهقة والتفاتة واثقة، استطاعت عهد أن تفشل الديكور الذي أعدته إسرائيل.

أحد الأسرى السابقين أضاف تعليقا على هذه الملاحظة موضحا، أن إسرائيل تتعمد أن يكون جنودها المرافقون للأسرى من أصحاب الملامح الهادئة، الـ(Cute ) كما وصفهم تحديدا، بينما تزدحم الممرات الممنوع التصوير فيها بمن وصفهم بالوحوش المنتمين إلى قوات النحشون، التي تدير السجون الإسرائيلية وتعرف بميلها الاعتيادي للعنف المفرط في حق الأسرى.

وفقا لمختلف التعريفات ما زالت عهد التميمي على ذمة الطفولة، ولكنها ليست الطفلة الوحيدة في السجون الإسرائيلية، فالطفل أيضا أحمد المناصرة يخضع لعقوبة السجن لقرابة العشر سنوات، ويتوقع أن يخرج من سجنه وهو في الرابعة والعشرين من عمره، ووراء الوجهين الطفوليين اللذين يشكلان صورة فلسطين أمام العالم، فإن آلافا من الأطفال الآخرين يسقطون ضحايا الممارسات غير الإنسانية لقوات الاحتلال الإسرائيلية، وتعتقد إسرائيل أن مشكلتها اليوم لا تتوقف عند توازن القوى أو الرعب القائم بين جنودها المسلحين حتى أسنانهم، والفلسطينيين الذين لا يمكن التنبؤ بطرق تعبيرهم عن الثورة والغضب، خاصة بعد تطور أساليب استهداف لإسرائيليين بحوادث الدهس والطعن، ولكن ما يقلق إسرائيل فعلا هو الجيل القادم، الذي يحقق تفوقا سكانيا يجب وضعه في الاعتبار، خاصة أن إسرائيل لم تقدم للفلسطينيين أية مبادرات تجعلهم يعيشون حالة من الاسترخاء، التي يمكن أن تخفف من عدائهم المعلن والصريح والمشروع تجاه إسرائيل وعدوانيتها تجاههم.

لنقترب من ذاكرة عهد التي ولدت في ذكرى يوم الأرض الخامسة والعشرين، أي في الثلاثين من مارس 2001، وبما يجعل من الذكريات المبكرة التي انطبعت في رأسها، الحرب على غزة، أو عملية الرصاص المصبوب وما حصدته من مئات الفلسطينيين، وتناقلت الفضائيات وقتها عمليات القصف الكثيفة، وكان مشهد الجثث المتراصة لعشرات من أفراد الأمن الفلسطيني في غزة إعلانا عن حرب غير عادلة وغير متكافئة، بين قوة غاشمة تتحرك بنفس انتقامي واستعراضي، تواصلت لتهدد بعشوائية حياة مئات الآلاف من سكان القطاع. عمليا لا يمكن لعهد أن تتذكر تفاصيل سنوات حصار المقاطعة وأحداثها التي أخرجت الفلسطينيين إلى الشوارع من أجل حماية سلامة وكرامة الرئيس ياسر عرفات المحاصر في مقره في رام الله، ولكنها بالتأكيد سمعت قصصا عن تلك المرحلة من أسرتها، كما أنها رضعت بعضا من القلق من دون أن تدرك حدوده، وكأي طفل فلسطيني كانت تشعر بأن أولئك الجنود الذين يعتقدون بأنهم، وتحت ذريعة أمن إسرائيل، يمتلكون الحق في تنغيص حياة الفلسطينيين، يمثلون أشباحا ستطاردها في حياتها، خاصة أن قريتها تعد إحدى مناطق التماس مع الاحتلال الإسرائيلي.

ذاكرة معجونة بالمرارة والإحساس بالغبن والخيبة، ونفس محملة بالندوب المقاومة للضغوط، التي تستهدف المحو والإفناء، أو على الأقل، التدجين والتهميش، ذلك ما تمتلكه عهد، وهو تحديدا ما لا يمكن لأحد أن ينظّر بأنه يتفهمه تماما، فالفلسطينيون يختلفون عن أي نوع آخر من الضحايا الذين شهدتهم الإنسانية في مسيرتها المتعسرة، ذلك أن عدوهم يحاربهم ويصارعهم على دور الضحية، ويصر على تجريدهم حتى من المظلومية، ويحاول أن يحتكرها لنفسه، فالإسرائيلي يريد أن يعتدي وأن يمارس القهر والعنف، وأن يحتفظ بصورة الضحية في الوقت ذاته، ولا يتأتى ذلك مطلقا إلا بإلصاق كل ما هو سلبي بالفلسطيني، وأن يعمم الصورة السلبية على كل ما يمثله الفلسطيني.

تكاد تغفل إسرائيل حقيقة أن معاداة السامية تفقد كثيرا من صلاحيتها خارج القارة الأوروبية، وأن بقية أنحاء العالم غير محكومة بعقدة الذنب التي تشكلت تجاه اليهود، وأن الفلسطينيين لا يمكن حصرهم في خانة معادي السامية، وأن اختيارهم لعهد لتصعد كأيقونة للمواجهة كان خاطئا جملة وتفصيلا، ولا يعدو سوى ضربة استباقية لما يمكن أن يهددهم مستقبلا من جيل لم يستطيعوا أن يغرسوا في ذاكرته أو وجدانه سوى مشاهد الموت والخراب، فعهد لا تلبي حتى الحد الأدنى من العداء الشائع لليهود على أساس ديني، فهي تنتمي إلى أسرة منفتحة، حتى أن كثيرا من المعلقين أخذوا ينتقدون عدم تقيدها بالحجاب، بينما وصلت حالة الشطط بالآخرين إلى ادعاء أن الاهتمام بعهد أتى نتيجة الذكورة الانتقائية، التي وجدت فيها ملامح جميلة (مثيرة)، ولكن ما وراء قضية عهد تأتي (صورة) عهد التي لا تختلف عن أي مراهقة محايدة، لا تقبل قصر هويتها وتغليفها في معطيات جاهزة مثل الدين أو العرق، فلا يمكن لصورة عهد لو وضعت بين مئات من الصور العشوائية لفتيات من مختلف أنحاء العالم أن تعطي أي مؤشر لدينها أو جنسيتها أو لغتها، هي مجرد صورة إنسانية محيرة ومقلقة، حتى أنها لا تختلف عن فتيات الأحياء العادية في أي مدينة أوروبية أو أمريكية، ويمكن أن تكون مقنعة لو أن أي شخص ادعى أن صورتها المجردة هي لفتاة من أبناء الأقلية البيضاء في كينيا أو زيمبابوي.

سرقت إسرائيل طفولة عهد وتجاهلتها، ولكنها كشفت عن كائن إنساني مفرط في إنسانيته لدرجة أنه يتسامى في وجوده المجرد عن الكينونة الفلسطينية التقليدية، لتقدم وجها مختلفا ومتفردا في بساطته وحياديته، محيرا ومربكا، ولذلك بدت باهتة وكاذبة كل الديكورات التي أعدتها إسرائيل من أجل شيطنة عهد، وفشلت رسالة إسرائيل التي سعت لأن تلصق بالكائن الفلسطيني، حتى في نسخته الطفولية، نواقص جوهرية وكأنها تعد مبررات جاهزة لتسحق جيلا طالعا يحمل تهديدا حقيقيا وجذريا لوجودها.

تستولي إسرائيل على مستقبل عهد وتصادره، كما فعلت قبل ذلك مع الطفل المناصرة، ومن قبلهم ومن بعدهم عشرات الآلاف من أطفال فلسطين، لتخبرهم بأن المستقبل يوصد أبوابه أمامهم، وأن بإمكانهم أن يخرجوا بربيع أيامهم من هذه المحرقة في حالة تركوا وراءهم الأرض التي لن تتسع سوى لضحية واحدة تجيد التمثيل والتضليل، ولكن عهد ردت بابتسامة تخبرهم بأن الأمر لا يعنيها وأنها لا تفكر في منافستهم على دور الضحية، فأدوار أخرى تنتظر جيلا جديدا في فلسطين.


القدس العربي

0
التعليقات (0)