قضايا وآراء

ولا يزال العرض مستمراً في السيرك المصري

أميرة أبو الفتوح
1300x600
1300x600

لم نكن بحاجة إلى تلك التسريبات التي نشرتها جريدة نيويورك تايمز وعرضتها قناة مكملين، عن اتصال رجل بالمخابرات المصرية برتبة نقيب يُدعى أشرف الخولي؛ ببعض المذيعين في القنوات التلفزيونية المصرية يُملي عليهم ما يقولونه، لنعرف أن جميع وسائل الإعلام المصرية قد تعسكرت تماما، شأنها شأن جميع مؤسسات الدولة التي أصبحت في قبضة الجيش!

فقد اشترت شركات تابعة للمخابرات معظم شبكات القنوات الفضائية، والباقي في الطريق، هذا بخلاف إنشائها لشبكة فضائية جديدة (قنوات DMC). وبهذا، تكون قد وضعت يدها كلياً على الإعلام، وسيطرت عليه تماماً، ولم تعد مجرد توجيهات من السلطة الحاكمة بسياسة معينة يلتزم بها العاملون بالحقل الإعلامي، كما كان يحدث في العهود السابقة، بل أصبح استحواذاً وهيمنة بالكامل على قطاع مهم يعمل على تشكيل وعي الناس، بل تخطى ذلك ليشكل وجدان أمة بأكملها، وتلقينها ما يريده العدو الصهيوني! ومن هنا كانت الخطورة والكارثة الكبرى، إذ تتغير الثوابت لدى الأمة وتنقلب المفاهيم، بحيث يصبح العدو صديقاً والعكس.

وقد فضحتهم تلك التسريبات التي أظهرت كيف أن ضابط المخابرات يلقن الإعلاميين والفنانين ما يقولونه بعد قرار ترامب الأخرق، بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، ويوضح لهم أنه لا فرق بين القدس ورام الله، وأنهم يجب أن يقولوا للناس ذلك، في محاولة لامتصاص غضب الشعب، ولتصدير روح اليأس والهزيمة للنفوس. فعلى هؤلاء الإعلاميين أن يقولوا إنه لا قِبل لنا اليوم بمحاربة إسرائيل، بطريقة وضع السم في العسل، لتحقيق ما يصبون إليه من خلال إظهار النوايا الحسنة، فلا بد أن يظهروا بأنهم يعملون ذلك حقناً لدماء الفلسطينيين، وحفاظاً على أرواحهم لأنه لو حدثت إنتفاضة فلسطينية، فالقتلى سيكونون من الفلسطينيين، وليس من الإسرائيليين (لاحظ أنه لم يقل شهداء، وذلك لتغيير المصطلحات والمعاني لدى المتلقي الذي ترسخت في وجدانه على مر التاريخ). ولإثارة التعاطف أكثر لدى المواطن، فلا بد من تجميلها بأنهم يريدون حل القضية الفلسطينية نهائياً، وإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني! ولأنهم يبثون سمومهم ضد حماس على مدار أكثر من أربع سنوات، وأنها وراء كل الكوارث والعمليات الإرهابية التي تحدث في مصر، مما كان له أثر سلبي في نفوس الكثير من المصريين ضدها، فلا بد من القول إن هذه الانتفاضة ستكون في صالح التيار الإسلامي، وخاصة حماس التي سيعود نجمها يبزغ من جديد بعد أن انطفأ، هذا مايلقنه ضابط المخابرات للمذيع، وهذا ما يريدون ترويض الشعب عليه، اللعب في ثوابته العقائدية والوطنية لتحويل بوصلة الصراع من العدو الصهيوني، العدو التاريخي للأمة، إلى التيار الإسلامي، وبالأخص جماعة الإخوان المسلمين، التي يصنفونها على أنها جماعة إرهابية وأن حماس منتمية إليها! وللأسف الشديد، حققوا نجاحاً في هذا المضمار مع جزء لا يستهان به من الشعب المغيب؛ الذي جرفوا عقله بهذا الإعلام الفاجر، والذي يدار - كما سمعنا - من أجهزة المخابرات!

أنا لا يهمني مَن سرب، وما هي الجهة المستفيدة من هذه التسريبات، وهل هو صراع أجنحة داخل الدولة العميقة.. فكل هذا يدخلك في دوامة من الأسئلة لتصل إلى حالة من التشكيك يريدها النظام ليبعدك عن جوهر ما جاء في تلك التسجيلات، تسجيلات العار، ولذلك لم أعر اهتماماً لما يقال عن صراع بين جهازي المخابرات الحربية والمخابرات العامة؛ التي أحيل منها أكثر من عشرين ضابطاً من الرتب الكبيرة خلال العام المنصرم.. ولكن ما يهمني هو حالة التردي والاهتراء التي وصل إليها جهاز المخابرات المصرية، بعيداً عن الهالة والهيبة التي أحاطت برجل المخابرات، وصورته في أذهان المواطن المصري من خلال "البطولات الخارقة" التي حققها، سواء في كشفه عن جواسيس أو زرع جواسيس له داخل جهاز الموساد الصهيوني.. وقد كُتبت العديد من الروايات عن هذه البطولات والتي تحولت لمسلسلات وأفلام، لعل أشهرها مسلسل "رأفت الهجان" لمحمود عبد العزيز، وفيلم الصعود للهاوية لمحمود ياسين، ساعدت في تكوين تلك الصورة الذهنية في عقل المواطن المصري عن ضابط المخابرات.. وبصرف النظر عن صحة تلك البطولات من عدمها، فليس هذا موضوعنا، فإنه من المفترض أن تكون مهمة أجهزة المخابرات في كل دول العالم هي المحافظة على أمن الدولة وسلامة أراضيها، وكشف الجواسيس، وجمع المعلومات واستخدامها لمراقبة نشاطات العدو العسكرية، لمنع أي هجوم محتمل للبلاد كخطوة استباقية.. إلخ، وليس تلقين مذيع ما يقوله وما لا يقوله!

 

 

جهاز المخابرات شأنه شأن جميع أجهزة الدولة التي أصابها الوهن، وتفشى السوس في مفاصلها على مدار أكثر من ستين عاماً، منذ انقلاب تموز/ يوليو 1952، فتحولت من دولة إلى شبه دولة

حينما تنظر لهذا المشهد منفرداً يصيبك شيء من الدهشة والاستغراب، لكن حينما تنظر له ضمن منظومة الدولة ومؤسساتها ككل، سرعان ما تزول عنك تلك الدهشة، ويختفي منك العجب، بل يكون الغريب أن لا يكون المشهد هكذا! فجهاز المخابرات شأنه شأن جميع أجهزة الدولة التي أصابها الوهن، وتفشى السوس في مفاصلها على مدار أكثر من ستين عاماً، منذ انقلاب تموز/ يوليو 1952، فتحولت من دولة إلى شبه دولة، كما وصفها السيسي نفسه. إذن، فلا غرابة أن يصل جهاز المخابرات المصري إلى هذا الدرك الأسفل!

***

ولأن مصر تعيش في سيرك كبير، فعروضه لا تتوقف منذ الانقلاب. وهي تتنوع بين الإبهار والإلهاء، وبين الصدمة والصفعة، وما بين المفاجأة والمباغتة. فبعد عرض التسريبات مباشرة، تمت تبرئة حبيب العادلي، آخر وزير داخلية في عهد حسني مبارك، والذي قامت ثورة يناير ضده، وقبل ذكراها بأيام، وكأنها رسالة إلى ثوار يناير الذين يقبعون وراء الأسوار في الزنازين؛ بأنه لا عزاء لكم ولا لأهالى الشهداء الذين ضحى أولادهم بحياتهم من أجل حرية هذا الوطن، وإرساء قيم العدالة والمساواة، ومن أجل كرامة المواطن.. فإذا بهم يلقون بكل هذه القيم النبيلة والدماء الزكية التي أريقت في عرض البحر الذي تتم فيه عمليات الصرف الصحي، ويختارون يوم عيد بناء السد العالي العظيم (9 كانون الثاني/ يناير)، والذي كانت مصر تحتفل به حتى وقت ليس ببعيد، ليعلنوا بكل فخر في السيرك عن تدشين أكبر محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي لمواجهة أزمة المياه التي ستتعرض لها مصر، بعد أن أضاعوا حصة مصر التاريخية في مياه النيل بتلك الاتفاقية المشبوهة مع إثيوبيا؛ التي تستكمل بناء سد النهضة غير مكترثة بمصر، بل إن وزير خارجيتها يجهر بأن الرئاسة وافقت على كل شروطنا، ولكنها لا تصارح المصريين بذلك!

ولا تزال عروض السيرك تتوالى، فقد أعلنوا فجأة عن فتح باب الترشح لرئاسة الجمهورية، وبسرعة اجتمع أعضاء مجلس النواب الذي صنع على أعينهم لتزكية السيسي. وكانت قد بدأت حملة منذ فترة تحت شعار "عشان نبنيها لازم تكمل"، واستمارات توقيع تسابق عليها الفنانون والرياضيون والإعلاميون.. ووزعت تلك الاستمارات على الوزارات والمصالح الحكومية، وأُجبر الموظفون على التوقيع عليها، كما يُجبرون الآن على عمل توكيلات ترشيح له في الشهر العقارى. وامتلأت شوارع المحروسة وميادينها بصوره وبيافطات التأييد والمبايعة!

 

 

 

كنت أفضّل أن يمد ما يسمى بمجلس النواب المدة الرئاسية إلى أن يقضى الله أمراً كان مفعولاً، ولا تُجرى انتخابات، فنوفر على خزينة الدولة مليارات الجنيهات، ونستريح من الزفة الكذابة والطبل والرقص


ولقد كنت أفضّل أن يمد ما يسمى بمجلس النواب المدة الرئاسية إلى أن يقضى الله أمراً كان مفعولاً، ولا تُجرى انتخابات، فنوفر على خزينة الدولة مليارات الجنيهات التي ستهدر في تلك المسرحية، رغم علمي أنها لن تعود على المواطن بكل الأحوال! ولكن على الأقل نستريح من الزفة الكذابة والطبل والرقص، سواء كان ذلك من "المواطنين الشرفاء" في الشوارع، أو من مطبلي الإعلام في كباريهاتهم الإعلامية!

القاصي والداني يعلم أن المسرح مُعد لمرشح واحد فقط، وخاصة الغرب الذي تقام له هذه المسرحية الهزلية. ويعلم الجميع أنه لا انتخابات حقيقية في ظل حكم عسكري يمسك بكل مفاصل الدولة، مع انسداد شرايين الحياة السياسية في البلد بشكل لم يسبق له مثيل، وانخفاض أفق الحرية والتعبير لما تحت القاع، وبالتالي فإن إجراء الانتخابات في ظل تلك الأجواء يفتقر لأدنى معايير الشفافية التي تضمن نزاهة الانتخابات.

 

 

 

يعلم الجميع أنه لا انتخابات حقيقية في ظل حكم عسكري يمسك بكل مفاصل الدولة، مع انسداد شرايين الحياة السياسية في البلد بشكل لم يسبق له مثيل


واستعد السيرك المنصوب لاستقبال كومبارس المسرحية، المحامي خالد علي، والذي كان يرغب أن يكون سنيداً وليس كومبارساً، ولكن هذا حجم المدني في الحكم العسكري. وكانوا قد أعدوه منذ فترة لأداء هذا الدور، مستخدمين معه سياسة العصا والجزرة. فعليه قضية فعل فاضح حُكم عليه فيها بالحبس ثلاثة أشهر في محكمة أول درجة، وتأجل حكم الاستئناف إلى شهر آذار/ مارس، أى إلى ما بعد الانتخابات، في إشارة لا تخفى على أحد، خاصة أنه قد رفض الترشح للانتخابات عام 2014 ووصفها بالمسرحية، وأنه لا يقبل على نفسه القيام بدور الكومبارس. فما الذي تغير إذن في انتخابات 2018 عن سابقتها، وهي تقام في نفس الأجواء؟ في الحقيقة لم يتغير شيء غير تغيير الكومبارس من حمدين صباحي (والذين كانوا يمسكون له العصا أيضاً في قضية لابنته) لخالد علي!

 

أبطال الثورة المضادة التي كانت تضم أيضاً خالد علي، والذين أسقطوا أول تجربة انتخابية حقيقية واتخذهم الجيش مطية.. أصدرا بيانا أعلنوا فيه دعمهم وتأييدها لخالد علي، معولين على التحول الديمقراطي

ومن المفارقات الساخرة؛ أن النخبة المحنطة، أو المنحطة بمعنى أدق، أبطال سهرة 30 سونيا، أبطال الثورة المضادة التي كانت تضم أيضاً خالد علي، والذين أسقطوا أول تجربة انتخابية حقيقية في تاريخ مصر الممتدد أكثر من سبعة آلاف سنة، واتخذهم الجيش مطية ليمر بدبابته من فوقهم لاسترداد حكم البلاد.. تلك النخبة المنحطة أصدرت بيانا أعلنت فيه دعمها وتأييدها لخالد علي، معولة على التحول الديمقراطي، وهي التي وأدت الديمقراطية في مهدها.. ولكنه الفُجر السياسي المتفشي بين تلك النخب!

وفي تطور مفاجئ في عروض السيرك، ظهر الفريق سامى عنان، رئيس أركان الجيش الأسبق، وأعلن حزبه عن ترشيحه للرئاسة، ولكنه لم يظهر حتى الآن. ولا نعرف هل تتم مفاوضات معه خلف الكواليس لثنيه عن فعله هذا، والذي يرونه كبيراً وخارج شروط اللعبة المتفق عليها، كما فعلوا مع الفريق أحمد شفيق؛ الذي أعلن تراجعه عن الترشح تحت التهديد، كما ذكرت نيويورك تايمز في تسريباتها، أو أنه يراجع حساباته مع نفسه أو مع تلك الدولة التي قيل إنها تدعمه، خاصة أنه في الانتخابات السابقة عام 2014 قد تعرض لعملية اغتيال، وأُجبر على إلقاء بيان يسحب فيه ترشحه ويؤيد السيسي.. فهل سيتكرر ذلك المشهد مرة أخرى؟ كل تلك الأسئلة سيجيب عنها العرض القادم في السيرك، وإن كنت أرى أن الجيش لن يسمح بنزول اثنين من رجاله إلى حلبة الصراع، حفاظاً على تماسكه.

أحس القائمون على السيرك بمدى الكآبة التي تسببها عروضه، فأرادوا أن يخففوا عن المصريين بفاصل كوميدي، وإذا بمرتضى منصور، رئيس نادي الزمالك، الشهير بلسانه السليط وبالسيديهات التي يحملها لأي شخص يهاجمه، يعلن ترشحه للرئاسة، ويعلن ابنه (عضو مجلس النواب) أنه سينتخب السيسي!

ولا يزال السيرك منصوباً، ولا يزال في الجراب الكثير يا حاوي، ولا نعرف ماذا سيقدم الحاوي في عرضه القادم!!

التعليقات (0)