كتاب عربي 21

إعلاميون وليسوا سياسيين

نزيه الأحدب
1300x600
1300x600

في عالم الكشافة، أول ما يقولونه للفتى: نحن معشر الكشافة نرتدي زياً مشابهاً للزي العسكري، ونظام الطلائع الذي نعتمده استوحاه مؤسس الحركة الكشفية الضابط البريطاني اللورد بادن باول من الهيكلية التنظيمية للجيش، إلا أن الكشفية نقيض العسكرية في أنها تطوعية أولاً غير إجبارية في شيء، وفي أنها "صديقة للجميع" ثانياً، بخلاف الجيوش. ومن باب القياس نتساءل: هل ثمة هوية مشتركة بين الإعلامي والسياسي؟

صحيح أن السياسة تطغى على حيز كبير في الإعلام من خلال نشرات الأخبار والبرامج والندوات الحوارية السياسية، وصحيح أن الإعلامي في هذا المجال هو صاحب قدرة على التحليل والربط والاستنتاج، وذو معرفةٍ باتجاهات العمل السياسي وخبرةٍ في الاصطفافات الداخلية والخارجية، إلا أن ذلك كله لا يجعل من الإعلامي شخصية سياسية، بل على العكس يلزمه باحترام المسافة بين عمله الإعلامي والفعل السياسي الذي يعبَّر عنه باتخاذ المواقف. وهذا لا يحرمه من الموقف بحد ذاته، فالصحفي يبقى إنساناً يتمتع بكافة حقوقه المدنية، وبينها حرية التعبير، بل يحرمه غالباً طيلة فترة مزاولته المهنة من التعبير عن مواقفه السياسية الشخصية في وسائل الإعلام المختلفة، للحفاظ ما أمكن على الموضوعية والقدرة على الإقناع العابر لمختلف الشرائح المجتمعية.

أما المواقف الوطنية والأخلاقية العامة، كرفض الاحتلالات والحروب والظلم والاضطهاد والفقر والتهميش، وغيرها، فهي قيَم محل إجماع بين الناس من حيث المبدأ، وإن كانت الخلافات حولها تقبع عند المفارق المؤدية إلى التفاصيل.

في العقود الماضية، قلما عُثر في الغرب والشرق على صحفي لا يتبنى قناعات سياسية معينة، لكن هؤلاء لم يكونوا مبشِّرين بهذه القناعا؛ت كما هي الحال اليوم مع وسائل التواصل "السياسي" التي طبعت عصرَنا الراهن، وتطبّعت معها الشعوب، دون أن تطرح على نفسها بعض الأسئلة الواجبة.

 

تحول "إعلام الناس" الاجتماعي إلى إعلام السلطات التي سبقت شعوبها إليه، واحتلته بجيوش الكترونية يحمل جنودها - في الغالب - أسماء ووجوها مستعارة


فأرهق بعض الإعلاميين المعاصرين أنفسهم في حساباتهم الالكترونية بتمشيط أحداث العالم وتطوراته، مهما كانت بعيدة أو قريبة سياسية، أو حتى جيولوجية. فالجمهور يهتم لرأيهم حتى يناصره أو يهاجمه، كما هي الحال القائمة اليوم، خصوصاً بعدما تحول "إعلام الناس" الاجتماعي إلى إعلام السلطات التي سبقت شعوبها إليه، واحتلته بجيوش الكترونية يحمل جنودها - في الغالب - أسماء ووجوها مستعارة.

اللعبة مُغرية، وتشبه المسرح الذي يمنح الممثل على الخشبة فرصة معرفة رد الفعل الفوري للجمهور. فالمتابعون على صفحات تويتر وفيسبوك وغيرهما؛ يتفاعلون بالمباشر مع التغريد والنقاش. لكن هذا الإغراء يقلل من بريقه نظام إدارة هذه المواقع العالمية الآسِرة التي تتحكم بالمُناخ العام السائد؛ في الحسابات، فلا يرى المتابع إلا ما تريد إدارة الموقع أن يراه.

 

المتابعون على صفحات تويتر وفيسبوك وغيرهما؛ يتفاعلون بالمباشر مع التغريد والنقاش. لكن هذا الإغراء يقلل من بريقه نظام إدارة هذه المواقع التي تتحكم بالمُناخ العام السائد؛ في الحسابات



وظهرت هذه السطوة بوضوح تام قبل أيام قليلة، مع اعتراف رئيس مجموعة فيسبوك، مارك زاكربرغ، على صفحته؛ بأن شبكات التواصل الاجتماعي تتيح للناس نشر الكثير من الإثارة والأخبار الكاذبة، والاستقطاب بسرعة أكبر من أي وقت مضى.. واعداً بإعطاء الأولوية للمعلومات الموثوقة، وذلك من خلال تحكمه في ما يظهر وما لا يظهر على حسابات المشتركين.

 

وجدتُ أنني وفّرت الكثير من الوقت والجهد الذي كنت أصرفه على وسائل التواصل عندما كنت ناشطاً عليها، كما وفرت على نفسي الانغماس في لعبة الناطق السياسي

إذن، ستعود هذه المواقع بالدرجة الأولى إلى الحسابات الالكترونية لوسائل الإعلا؛م كمراجع مسؤولة عما تبثه من أخبار ومعلومات. فهل يعود الإعلاميون معها إلى مساحة التعبير المحصورة بصحفهم وقنواتهم؟ في تجربتي الشخصية، حيث أملك حساب فيسبوك غير مفعّل، أنشأته فقط لمنع انتحال الصفة، ولا أملك حساباً في تويتر، مع وجود حسابٍ مزور لمنتحل صفة، وجدتُ أنني وفّرت الكثير من الوقت والجهد الذي كنت أصرفه على وسائل التواصل عندما كنت ناشطاً عليها، كما وفرت على نفسي الانغماس في لعبة الناطق السياسي، خصوصاً أن كثيراً من الناس لا يحسنون دائماً قراءة التغريدات الواضحة بوضوحها، فيؤولونها على غير موضعها. وهذه آفة يمكن أن تصيب أحياناً بعض العاملين في مهنة الإعلام، حيث اختبرتُ مؤخراً كيف أُقَوَّل ما لا لم أقُله في دردشات إعلامية معي؛ تحولَت إلى مقابلات احتوت على مغالطات.

التعليقات (0)