كتاب عربي 21

الحريات الفردية: محطة جديدة في ديمقراطية ناشئة

صلاح الدين الجورشي
1300x600
1300x600

لا يزال الشعب التونسي عرضة لخضات قوية؛ لأن التونسيين ينسون أن مجتمعهم يمر بمرحلة انتقالية هامة وحساسة. فهم في غمرة البحث عن استقرارهم الأسري المرتبط بقدرتهم الشرائية المتراجعة نحو الخلف، يغفلون بأنهم قد تقدموا في مجالات أخرى قد تبدو لهم بسيطة أو هينة أو ليست ذات أولوية. وفي مقدمة ما يستهينون به؛ مسألة الحريات التي يزعم البعض بكونها مسألة هامشية، أو أنها لا توفر الطعام للجائع والمحروم.

هناك مشكلة تحتاج إلى حل. وهذا الحل لن يكون فرديا، وإنما هو بالضرورة حل جماعي، يشارك فيه الجميع، أو على الأقل أغلبية المواطنين. وتتمثل هذه المشكلة في كيفية إدارة الحوار بين التونسيين. ففي لحظة من اللحظات، يدفع البعض نحو تحويل عدم الفهم أو الخوف إلى غضب قد ينفجر في لحظة، وينتهي إلى حالة من الفوضى والعنف، دون أن يكون وراء ذلك هدف واضح ورؤية متناسقة وخطة للوصول إلى نتيجة ما. وأحيانا لا تكون هناك علاقة بين السبب والنتيجة. إذ قد تتضخم مسألة ما وتؤدي إلى احتقان جماعي، دون أن تكون لها علاقة مباشرة بالشعارات التي يتم رفعها من قبل المحتجين.

 

الديمقراطية ليست فقط نظاما سياسيا قائما على التداول على الحكم عبر انتخابات حرة ونزيهة، والفصل بين السلطات وإطلاق الحريات، وإنما هي أيضا انتقال من الحكم الفردي إلى استعادة الشعب لحق المبادرة

تتهيأ البلاد حاليا لتدخل في نقاش وطني حول مسألة الحريات الفردية. وهذه الحريات ليست عملية عبثية كما يعتقد البعض، إنها جزء من مسار الانتقال نحو الديمقراطية. فالديمقراطية ليست فقط نظاما سياسيا قائما على التداول على الحكم عبر انتخابات حرة ونزيهة، ولا تقف الديمقراطية عند الفصل بين السلطات وإطلاق الحريات، وإنما هي أيضا انتقال من الحكم الفردي إلى استعادة الشعب لحق المبادرة، وأيضا هي انتقال من دكتاتورية الجماعة إلى بناء الفرد المواطن. وهذا الفرد لن يولد، ولن يتمكن من أن يصبح فاعلا ومؤثرا ومستقلا في قراره إلا عندما يتمتع بحرياته الفردية.

سيدور نقاش ضخم ومتعدد الأبعاد. هذا ما يفترض الخوض فيه بعد أن تنهي لجنة الحريات الفردية والمساواة أعمالها وتعد تقريرا شاملا في هذا الشأن. وهي لجنة استشارية، تقدم آراءها ومقترحاتها دون أن تكون مسؤولة عما سيختاره رئيس الجمهورية ضمن صلاحياته. ولا شك في أن ما ستختاره يعكس القواسم المشتركة بين أعضائها، رغم أن تكوينهم ومساراتهم مختلفة، وإذا ما اختلفوا يضمنّون التقرير أكثر من اقتراح . لكن الذي سيحول تلك التوصيات إلى مشاريع قوانين هو رئيس الدولة؛ الذي لا شك في أنه يعرف ما يريد الوصول إليه، حتى وإن بدا مترددا أحيانا. إذ هو بحكم مسؤولياته السياسية يعلم موازين القوى، ويفترض أن يتعامل معها بمسؤولية، حتى لو أخذه الطموح نحو اتخاذ إجراءات غير مسبوقة. عليه أن يصنع توافقا واسعا حول المشروع الذي سيقدمه، حتى يتجنب رفض البرلمان ويعجز عن تشكيل أغلبية مساندة له. فنظام البلاد شبه برلماني وليس رئاسيا؛ مثلما كان الشأن في عهد الرئيس بورقيبة.

بقيت الحريات الفردية مؤجلة في التاريخ العربي والإسلامي، لم يستسغها الكثيرون بيسر. فالنزعة المحافظة في المجتمعات تتوجس من حرية الفرد الذي بقدر حاجته إلى المجتمع الذي ينتمي إليه، بقدر ما ينزع نحو أن يكون له هامش من الحرية والفضاء الذين يسمحان له بتأسيس كيانه الذاتي دون تدخل المحيطين به، ودون أن يكون مصيره مرتبطا فقط بفكرة الدولة ومصالحها، والاعتقاد بأنها القوة التي تحتكر شرعية العنف، وتفرض على جميع الأفراد حالة من الانضباط والولاء. هذا الفضاء هو ما يعبر عنه بالمجال الخاص. والمجتمع الذي لا يقبل بأن يعترف بهذا المجال؛ يكون الفرد فيه إما كائنا سلبيا ومستسلما لمصير يصنعه له غيره، أو أن يكون فردا مشاكسا، وأحيانا مغامرا يسعى في الغالب إلى التمرد بأشكال متعددة كلما وجد لذلك سبيلا.

 

ليس من الديمقراطية ادعاء أن ينصب البعض بكونهم المدافعين بالألف واللام عن الحداثة، واتهام مخالفيهم بالجهل والرجعية


ما يثير المخاوف في هذا السياق أن بعض التونسيين يرفضون السير في هذا الطريق، بحجة أن مثل هذا التمشي سيضر بالإسلام وبالهوية الجماعية. وهؤلاء ينسون بأنهم ليسوا وحدهم المدافعين عن هذا الدين، ولا ينطقون باسمه، ولا يحددون الفهم الوحيد لنصوصه وحقائقه. وحتى لو تم التسليم لهم بذلك، فإنهم لا يعيشون في مجتمع متجانس يتفق فيه الجميع على رؤية واحدة للدين والثقافة والمجتمع. إنهم جزء من المجتمع وليسوا كل المجتمع. ولا يحق لهم منع غيرهم من التعبير، وأن التغيير لا يكون إلا من خلال الآليات السلمية التي حددها الدستور والمؤسسات الديمقراطية. لأنه إذا تم اللجوء إلى التكفير والتلويح باستعمال العنف، فذلك من شأنه أن يعرض السلم الأهلي للخطر.

في المقابل، ليس من الديمقراطية ادعاء أن ينصب البعض بكونهم المدافعين بالألف واللام عن الحداثة، واتهام مخالفيهم بالجهل والرجعية. إنها غوغائية مستفزة للمشاعر، وتصطدم بمبدأ الحريات الفردية التي في مقدمتها حرية الفكر والتعبير والمعتقد والضمير للجميع، وبالتالي من حق من يعتبره البعض رجعيا أن يفصح عن قناعاته دون خوف أو تعسف.


التذكير بهذه المنهجية أمر ضروري؛ لأن مناقشة الحريات الفردية تهم كل الأفراد، وستمس الجميع بدون استثناء. إذ بالرغم من وجود مؤسسات وأحزاب وبرلمان، إلا أن قناعة الأفراد وإيمانهم بأن ما سيشرع لهم هو الإطار الذي سيلتزمون به، والذي في ضوئه سيعرفون حقوقهم وحقوق غيرهم الذي يختلفون معه.. هذا هو أساس تحقيق الانتقال من الديمقراطية السياسية إلى مرحلة العيش المشترك.

التعليقات (1)
بشير ـ الجزائر ـ
السبت، 10-02-2018 10:41 م
الانتقال التدريجي من حالة إلى حالة مهم ويحتاج إلى قدر عظيم من الصبر ، تونس أكثر ما تضرر من جهات خارجية تستخدم المال لشراء الذمم ، والوضع الاجتماعي التونسي يساعد على ذلك ، أولوية التونسيين هو تجفيف مرابض هذه الجهات ( مصدر الفوضى ) ، سواء نداء تونس أو النهضة ، كلاهما سيتضرر ، لذلك فإن حصول توافق النهضة والنداء على كشف هذه الجهة الخارجية ذات روافد إعلامية وسياسية في الداخل ، كفيل بتجنيب تونس الكارثة . ثانيا : بخصوص الدفاع عن القيم مهمة كثيرا ، لكن مثل هذا يحتاج إلى وقود حضاري ، أولا ينبغي للتونسيين وكل المهتمين بعالم الأخلاق والقيم أن ينطلقوا من مشروع حضاري ، الديمقراطية ليست مقتصرة على استحقاق آني ينتهي بانتهاء العملية الانتخابية ، كما أنها ليست عملية لتجميع أصوات المنتخبين وحسب ، الديمقراطية بالمفهوم الفرنسي مثلا قاصرة جدا لأنهم عجزوا عن إعطاء الصورة المشرفة لمثلثهم الذي صار باهتا كثيرا ، هل وفق الفرنسيون في إيصال روح الحرية والإخاء والمساواة إلى العالمين ؟ أبدا ، أما التونسيون فهم على موعد مع التاريخ لقول كلمتهم ورسم مسارهم بداية بتحديد مفهومهم للديمقراطية ووضع اللبنة الأولى لبناء صرح المجتمع التونسي الآمن والأمين ، ولتكن البداية بالتوافق بين النهضة والنداء على أن : " الديمقراطية سلوك حضاري ينظم نشاط الحاكم والمحكوم في المجتمع على سبيل الإلزام " ، بعد ذلك يمكن أن يناقش إخواننا التونسيون موضوع الحريات الفردية بكل اطمئنان .