قضايا وآراء

فاقد الشيء ليبحث عنه

محمد الحساني
1300x600
1300x600
إن التربية على الانهزامية والانسحاب من ساحة الشأن العام، وترك ما لقيصر لقيصر وما لله لله، تربية قرونية جذرية في تاريخ الأمة منذ انكسار تاريخها وتحول الأمر من شورى وكرامة وعدل، حيث كانت الأمة هي واسطة عقد الأمر في الشأن العام لا يمكن تجاوزها؛ إلى أن أصبحت سائمة تساق. يعبر عن هذا الموقف وهذا التحول واحدة من أشهر الأقوال المشهورة في تاريخ الأمة "إني أرى رؤوسا قد أينعت وحان وقت قطافها"، قالها الحجاج ابن يوسف الثقفي، واحد من أساطين الحكم الأموي.

هذه التربية المؤصلة للخنوع والخضوع والركوع تفنن فيها أهلها ومنظروها، ولذلك كانوا يرسخون الكثير من المفاهيم وسط الأمة، لتصبح هذه المفاهيم هي المؤطرة لحياة الناس تتوارثها الأجيال تلو الأجيال، ولعل واحدة من هذه المفاهيم الكثيرة الاستعمال بين عموم الناس خاصهم وعامتهم (فاقد الشيء لا يعطيه).

إن نقض كابوس الاستبداد يتطلب نقض مفاهيمه التي يرتكز عليها ويؤسس لها وعليها ذهنية الناس؛ فيجعلهم قطيعا في مزرعته يسوقهم كيف شاء وإلى أين شاء. فاقد الشيء فليبحث عنه على هذا المفهوم ينبغي أن تربى الأمة عليه لتقوم من سباتها وتستعيد كرامتها وعزتها.

من أراد الحرية فليسقط الاستبداد

مقولة بدأ التربية على منوالها، وبها كان يسوس الأمة واحد من رجالاتها وأحد أعمدتها الكبار. إنه الفاروق عمر ابن الخطاب رضي الله عنه (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا). شتان بين هاته وبين قطف الرؤوس التي أينعت. شتان بين من كان يزرع في الأمة ويرسخ فيها معاني الإباء والعزة والمنعة، ومن جاء وكل هدفه أن يقتلع جدور هذه المقومات .

لا يمكن اقتلاع هذا الورم الخبيث بذهنية ترى الاهتمام بأمر المسلمين والقيام بواجب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي قزم مفهومه، في ظل فقه منحبس، لا يمكن استئصال هذا الورم إلا إذا تحررت الأمة من أغلال الرهاب والخوف الوهمي. رحم الله مؤسس علم الاجتماع عبد الرحمن ابن خلدون الذي قال في كتابه الفذ، المقدمة": "الظلم هو اغتصاب أي حق مادي أو معنوي". الاستبداد ليس اغتصابا للحقوق العينية والمالية فقط بل والمعنوية كذلك، هكذا يجهز الاستبداد على كل مقدرات الأمة، المادية والمعنوية منها.

الذهنية الانتظارية هي تلك الذهنية القاعدة الساكنة التي تنتظر أن ينزل القدر من السماء دون أن تتحرك، والتي تربت على مجرد الحوقلة.. حوقلة استسلام وخنوع، لا حوقلة استسلام وإقدام. لا يمكن أن تغير من الواقع شيء، لابد من إعادة تربية الأمة على كل نقيض لمعاني الاستبداد وأسسه.

لا بد من طليعة تقتحم هذه العقبة لتحيي الأمة من جديد وتبعث فيه إرادة التحرر. ولعل واحدا من الشعارات التي ينبغي العمل على غرسها في وجدان الشعوب، من يرد الحرية فليسقط الاستبداد.

من يرد الكرامة فليسقط الاستبداد

رب سائل يسأل: لماذا تكرار الاستبداد؟ ولمثل هؤلاء نقول إن أي تحليل للواقع السياسي يتيه في الجزئيات والتفاصيل دون أن يضع الأصبع على مكمن الداء وأصل البلاء -والبلاء هي كل التمظهرات الجزئية - يكون قد جانب الصواب ودخل في معارك وهمية بعيدة كل البعد على أصل العطب في الواقع السياسي للأنظمة العربية والإسلامية.

تكرارنا لهذه اللازمة هو من باب التنبيه والتأكيد على ذلك حتى تبقى البوصلة كل البوصلة متجهة إلى ذلك لا تنحرف عنه أبدا.

نرجع إلى واحد من أركان التنظير في ميدان الفقه السياسي لنقف معه، وهو يحدثنا حديث الخبير الذي طالما وقف قولا وعملا تنظيرا وممارسة إلى أن التحق بربه.. إنه الاستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى الذي يقول: "أين هي تلك الشهامة، وذلك الثوثب، وتلك الرغبة في الاستشهاد في سبيل الله، وذلك الإيمان الذي بعث الله من قبائل العرب الخاملة المتفرقة المتحاربة خير أمة أخرجت للناس؟ أصبحنا أمة متفرجة مستهلكة قاعدة".

"غيرنا يكتب الرواية، ويرتب المسرح، ويمثل الأدوار. غيرنا ينتج ويبيع، ويشترط، ويرتهن ما شاء من حريتنا، وكرامتنا".

"إننا بحاجة أن تنبعث هذه الإرادة المغيرة الفاعلة من داخل صدور الملايين، وقد ألفت أن تضع أمرها بين يدي الحاكم، وتتواكل إليه، وتسكت عنه. فيا من يبيع الأمة غيرة، وَيَا من يهديها علما، وَيَا من يأخذ بتلابيبها زجرا، لتنبذ ذهنية الخنوع التي صيرتنا مفعولا به في التاريخ منصوبا لكل ذُل بعد أن كنّا فاعلا مرفوعا عزيزا!".

معركة انتزاع الكرامة معركة حياة أو موت، إذ لا حياة بدون كرامة، إنها معركة الإرادة بين هذه الأمة التي ينبغي أن ترفع الصوت عاليا، أننا قوم لا نقبل الضيم ولا ننزل أبدا على رأي الفسدة، ولا يعطون الدنية أبدا من وطنهم أو دينهم، إذ لا كرامة والاستبداد جاثم على أرض البلاد وقلوب وأنفاس العباد.

اقلب دولة نفسك

في مسار الحركة التغييرية لا بد من توزين العامل الذاتي، ذاك هو جوهر الفعل التغييري الذي بتحققه نكون قد قطعنا الشوط الأساس، أو بلغة أدق نكون قد وضعنا الأقدام على القاعدة الأساس التي ينبني عليها كل تغيير .

لا يغني وضع الاستراتيجيات إن لم نقف مع فحص ذاتنا، للنظر في عيوبنا لتربية نفوسنا وصقل قلوبنا وتهيئ المحل الذي يتنزل فيه نصر الله .

لا ينبغي أن تكون معركتنا مع الاستبداد دون استحضار هذا الأساس، إذا كان ينبغي أن تبقى البوصلة - أسلفنا سابقا - متجهة نحو الاستبداد وعدم الانزلاق في المعارك الجانبية أو الجزئية، فإنه كذلك ينبغي أن نتنبه أن الشرط الذاتي بعد توفيق الكريم الوهاب يبقى قطب الرحى في معادلة التغيير المنشود .
التعليقات (0)