كتاب عربي 21

المستورد القرشي في شارع وول ستريت: سباق النقمة والرحمة بين المسجد والبنك

أحمد عمر
1300x600
1300x600
شتاءً، كلما دخلت إلى فرع البنك الأحمر الألماني، بسطت الرأفة أجنحتها عليّ، وكاد قلبي يدمع من الرحمة، وأنا أرى المتشرد الألماني العجوز نفسه، وقد اضطجع في الركن المعهود، بجانب جهاز ناشر الحرارة، وتفوح منه رائحة كريهة. والمتشرد لا يتكلم، ولا أحد يشتكي منه، أو يتذمر من رائحته، لا موظف، ولا زبون، ولا شرطي. ولو كان في سوريا أو في مصر، لاتهم بتوهين روح الأمة، أو تهديد الأمن القومي، وربما في أدنى الحالات وطنيةً، قدمت فيه شكوى بالإساءة لصورة الوطن المعطاء، أو للسياحة.
 
هو سكران دوماً، لا ينظر في وجوه الداخلين، غائب في براري نفسه. حقيبته كيس، فيها زوادته الصوفية، وهي علب جعة. وأحب أن أعرف هل هو السكران، أم سكارى الرحمة هم الألمان.

والبنوك مؤسسات سيادية، وأقدس أمكنة في الغرب، وأصحاب البنك وموظفوه يعاملونه معاملة المعتكف العابد الناسك، أو يغضون عنه ويتغافلون. أما البنوك البلاد العربية، فتشبه الثكنات. رأيت البلديات الألمانية تقيم في بعض البنوك ذات السعة الكبيرة، أفراحاً ومناسبات سعيدة، ولم أعرف هل يجري ذلك مقابل رسوم مالية، أما أنها تتطوع لذلك لوجه الإنسانية، ولا تبغي سوى الأجر والثواب.

ذكرني المتشرد بحكاية الإمام أحمد بن حنبل والخباز، وتنسب الواقعة في بعض المصادر إلى إبراهيم بن أدهم البلخي، وفيها أنه كان مسافراً، وصلى العشاء في مسجد المدنية، ونوى أن ينام في ضيافة الله، في بيته، في مكان قدميه، لكن خادم المسجد المترع بالشعور الوطني والديني، أبى، وجرّه خارج المسجد.

تقول الرواية التي تذكر في كتب الرقائق، أن ابن حنبل كانت عليه علامات الصلاح والوقار، ومع ذلك طرده خادم المسجد، وكأن الخادم موظف من أوقاف أولياء الله الأتقياء أحمد حسون، أو علي جمعة. فوجده خباز، فدعاه إلى فرنه، والفرن فيه الدفء والطعام، وكان الخباز لا يني يستغفر الله وهو يعجن عجينه، وفي القصة ربط بين خبزين: خبز البطن، وهو معروف، وخبز الروح، وهو الاستغفار، فعجب ابن حنبل من مواظبته على الاستغفار، وسأله عن ثمرة الاستغفار الدائم، فقال له الخباز: إن الله استجاب له كل دعواته، إلا دعوة واحدة، وهي أن يكرمه بلقاء الإمام أحمد بن حنبل، فقال ابن حنبل: لقد جرّه الله إليك جراً. ونفهم من الحكاية أن ابن حنبل كان نجماً، يُحَب أن يرى في زمانه، كما الإمام كاظم الساهر في زماننا. وأطلق على كاظم لقب الساهر، لسهره في عبادة الله، كما جاء في كتاب الأغاني لسوبر ستار زماني.

وأقول لنفسي، إن البنك، وهو مكان إيداع الأموال، وكلها أموال يدخل فيها الربا ولا يخرج منها، رحم المتشرد، ورأف به، في بلاد العلوج، أكثر من رحمة المسجد بالإمام أحمد بن حنبل. وبما أن الشيء بالشيء يذكر. سأتذكر هذا الحديث المفيد، وفيه: إن المستورد القرشي كان عند عمرو بن العاص، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقوم الساعة والروم أكثر الناس. والأكثرية هنا تعني الغلبة والتفوق، فقال له عمرو: أبصر ما تقول! قال: أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: لئن قلت ذلك، إنّ فيهم لخصال أربعاً: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأشوكهم كرّة بعد فرّة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك.

والمتشرد البنكي في البنك الذهبي لم يكن يتسول، ويستطيع أي مواطن ألماني تجنب التسوّل لولا الطمع في السياحة والسفر، أو حب المغامرة، وعزف الألحان للناس. والمتسول في الغرب يتسوّل عادة أمام أبواب البنوك والأسواق الخارقة (السوبر ماركت) ومحطات القطار، بينما يتسول المحتاج في بلادنا المعطاء عند أبواب المساجد. ولم أجد مسيحياً يتسول في بلاد المسلمين قط، وكأنه ليس عندهم فقراء! ومن النافل القول، إن ثلاث أمم إسلامية، أو أربع تتسول (شعوباً وقيادة) من أخواتها، أو من موظفي الأمم المتحدة، التي فُضحت مؤخراً في تقارير رصينة، بما يمكن أن نسميه "نكاح القبعات الزرقاء". وكانت التقارير الإخبارية قد أبلغتنا أن 60 ألف موظف من موظفي الأمم المتحدة، محصنين بالزي الأزرق، اغتصبوا أطفالاً جائعين: المعونة مقابل النكاح. أي أن ضحايا الأمم المتحدة الجنسية، أكثر من ضحايا داعش، ولكن دعاية داعش أكبر.

ووجدت بحثاً لطيفاً عند الباحث في علوم الأسطورة والأناسة، جوزف كامبل، يرى فيه أن أعلى العمارات في المدن الغربية الكبرى هي البنوك، وكانت يوماً، الكنائس والمعابد والأديرة. ويربط بين ارتفاع نسبة الجرائم، وارتفاع ناطحات السحاب، وغياب السماء عن بصر الناس. ووجدت مقارنة أخرى جميلة، بين فن عمارة المساجد، وهندسة عمارة الكنائس، في كتاب علي عزت بوغوفيتس "الإسلام بين الشرق والغرب"، وهو الكتاب الذي خلب لب عبد الوهاب المسيري، ولبّي أيضاً، واستمتعت بها كثيراً، وأتذكر أنه قال فيها: إن المسجد كان دائماً في وسط البلدة، وحوله تدور التجارة والناس، وقبّته تشبه السماء، ونوافذه مكشوفة، وليس فيه غرف سرية، ولا يحتاج إلى ديكورات، ويمكن الصلاة فيه على الأرض، أو على الحصر، بينما تحتاج الكنيسة إلى موسيقا، ومقاعد، وإضاءة خاصة. والكنيسة صارت مؤخراً في طرف المدينة، وكأنها مقصية.

نعود إلى المتشرد، والمتشردون في الغرب، هم عادة متصوفون من غير دين، ومن غير عبادة، ويمكن أن يتقدم للحكومة الألمانية شاكياً، فتقدم له سكناً، فحق السكن مكفول في الدستور الألماني، لكن الحكومة لا تُكره الناس على ما لا تحب. ورأيت متسولين شباباً، في منتهى الوسامة، يصطحبون كلابهم، ويتسولون بها، فأقول: إن الغرب أرحم في هذه اللحظات التاريخية، التي يلقبُ فيها زعماؤنا بألقاب مثل الخليفة السادس.

عمرو بن العاص، وكان من دهاة العرب،ومن كبار القادة، فتح مصر، وأغلقها السيسي، وأغلق المصليات والزوايا؛ لأنها صغيرة، ولا يمكن مراقبتها. وفي فلم سيادة الوزير، يحاول أحمد زكي، الوزير، أن ينام في زاوية، لكن الخادم يمنعه.

لقد مدحت الغرب كثيراً، وفي هذه السطور سيبلغ المدح مداه.

تبلغ رحمة الروم وسعها، عند ارتكابهم الجرائم، فملوكهم الذين يرمون القنابل النووية علينا، أبطال وقديسون، ومن المعروف أن خمسة زعماء من غير المسلمين قتلوا 200 مليون شخص! وهم على التوالي في بطولة الإبادة الجماعية: ماو تسي تونغ، (79 مليون)، وستالين (60 مليون)، وهتلر (17 مليون)، والكمبودي بول بوت (8 مليون)، وملك بلجيكا ليوبولد الثاني (15 مليون إفريقي)، بين هؤلاء القتلة، ثلاثة منتسبين إلى الدين المسيحي، وروميان هما: هتلر، وليوبولد الثاني. لم نذكر القتلة الأدنى أمثال: هاري ترمان، وجورج بوش الصغير. أما القتلة الصغار، الذين يقتلون أقل من مئة تلميذ في المدارس، أمثال أندرس بهرنغ بريفيك، والفتى الأمريكي المفصول من المدرسة، كروز، فهم مضطربون عقلياً، ويحتاجون إلى الشفقة والرعاية النفسية.

وهذه سادسة حسنة وجميلة، لم يذكرها المستورد القرشي رحمه الله.
2
التعليقات (2)
مسلمة
الثلاثاء، 27-02-2018 06:28 ص
العجيب في القصة أن المسجد له حارس ولا اعلم من خلال قراءتي عن المساجد في تلك الأزمان أنه كان لها حراس يبيتون عندها ، ويحرسونها ومن ماذا تحرس ؟؟!!! لا اعلم فلا بد لنا من أن نتوقف قليلا عند هذه النقطة ومما سمعته اليوم في احدى الأشرطة لأحد الدعاة أنه قال أن رجلا اسلم عندما رأى عصفورا يعشعش في نخلة فتعجب هذا الرجل كيف لعصفور ان يكون له بيت في نخلة والعصافير لا تعشعش في النخل فقال : صعد الرجل الى النخلة فوجد فيها ثعبانا أعمى وكان هذا العصفور يأت له بالطعام فأسلم ذلك الرجل لما رأى هذا . لكن بعد استماعي لهذا الشريط تعجبت وقلت في نفسي ومنذ متى كانت الثعابين مبصرة ؟؟!!! .
mimoun
الإثنين، 19-02-2018 11:34 م
مقال جميل ،لا فضّ فوك!