كتاب عربي 21

هل تراهن الرياض على وزير الداخلية التونسي للانقلاب؟

طارق الكحلاوي
1300x600
1300x600
شبح الاستبداد سيبقى جاثما على التجربة الديمقراطية التونسية لفترة طويلة. يرجع ذلك لأسباب موضوعية معقدة، منها ما يتعلق بالتهديدات الحقيقية الثابتة لمعسكر إقليمي- دولي لا يرتاح تماما لتحرر الإرادة الشعبية، حتى في شكل مضبوط ويحتاج للكثير من الإنضاج. يتعلق أيضا بعدم التناسب بين التحرر السياسي والإنجاز الاقتصادي والاجتماعي، بما يخلق فتور حماسة عام للديمقراطية، ومن ثم الجو المناسب لمشاعر الثورة المضادة والحنين للزمن المخادع للاستبداد والرفاه الوهمي وقتها. تضاف إلى ذلك طبعا؛ الأطراف الداخلية الخاسرة من مساحة الحريات، والتي لا يمكن أن تمارس محسوبيتها وفسادها وتقاسمها للكعكة بالشكل المريح المعتاد، ومن ثم حتى إن أبقت على شبكات الفساد، فإنها تعمل تحت سياط النقد والتعرية والصراع المستعر بين اللوبيات نفسها. وهكذا، فإن آخر ما يشاع الآن حول الدور الذي يرغب البعض إسناده لوزير الداخلية الحالي لطفي براهم؛ هو آخر حلقة من حالة الرهاب الموضوعية من عودة شبح الاستبداد.

الحقيقة إن ما يحدث من قبل براهم وحوله، وفي سياق علاقته برئيس الحكومة من جهة ورئيس الجمهورية من جهة أخرى؛ يعكس اتجاها عاما لا يبعث على الاطمئنان. لكن قبل ذلك يجب أن ننطلق من واقع ان براهم من القلائل في تاريخ وزارة الداخلية؛ ممن تقلدوا المنصب في حين انهم من الناشطين مباشرة في الأجهزة الحاملة للسلاح. من بين الأمثلة القليلة زين العابدين بن علي نفسه؛ الذي كان ينشط في المخابرات العسكرية قبل انتدابه كمدير للأمن في السبعينات. وحتى الأمثلة الأخرى (الحبيب عمار) أتت في سياق انقلاب ابن علي، ولم يبق هؤلاء خوفا من الأخير من أن يتم توظيف مناصبهم في اتجاه مناهض له.

أكثر من ذلك، يأتي براهم من أوساط جهاز محدد من الأجهزة الأمنية ("الحرس الوطني")، وهي أيضا مخالفة أخرى للتقاليد، حيث أنه من النادر أن يتم تعيين رئيس أحد الأجهزة المعروفة بالتنافس فيما بينها؛ كمشرف عام على وزارة الداخلية. وهو أيضا الأمر الذي حصل فقط أيام ابن علي (بتعيين الحبيب عمار وزيرا للداخلية وقد كان امر الحرس الوطني قبل ان يعزله بسرعة). المؤشرات الأخرى التي تدفع الملاحظين لمقارنته بابن علي أنه أيضا من جهة الساحل التي طالما حافظ المنحدرون منها على نفوذ قوي داخل الأجهزة الحاملة للسلاح، سواء كانت الأمنية أم العسكرية، وهي الجهة التي أنجبت الرئيسين اللذين حكما معظم تاريخ تونس المعاصر، بورقيبة وابن علي، تحديدا الفترة التي تميزت بالاستبداد. 

قبل أن يفعل أي شيء، أحاطت بتعيين وزير الداخلية العديد من التساؤلات غير المطمئنة. هذا إذا تغاضينا أساسا على ما أحاط بملف إدارته لجهاز الحرس الوطني من أسئلة أخرى، خاصة ما يتعلق بإدارة "عملية المنيهلة". إذ توجد قضية في الحال في ما يخص الملابسات التي أحاطت بها وبدوره فيها. مباشرة بعد توليه الوزارة بدعم من السبسي، ساد عدم ارتياح لدى رئيس الحكومة الذي لم يكن يفضل توزيره، وهو ما أضاف إلى مؤشرات المقارنة مع ابن علي الذي كان في تنافس، كوزير داخلية، مع رئيس الحكومة رشيد صفر، مقابل الدعم الذي تلقاه حينها من بورقيبة والقصر.

ما أفاض الكأس وجعل الأمر مطروحا بشكل غير مسبوق؛ زيارته الغريبة للسعودية في الأسبوع الماضي، والتي تمتع فيها باستقبال وحظوة لم يحظ بها أي مسؤول تونسي منذ الثورة. إذ استغرقت الزيارة أربعة أيام بكاملها، في حين لم تقم وزارة الداخلية بأي توضيح حول ملابسات الزيارة وماذا فعل براهم خلال الأيام الأربعة. والأهم، استقبل الملك السعودي نفسه، مع أهم أركان الحكم، وزير الداخلية والوفد المرافق له، والذي لم يتضمن أي من المسؤولين الكبار في الوزارة، بل فقط الناطق باسم الوزارة ومدير البروتوكول، مما جعلها أقرب لزيارة شخصية وليس زيارة مؤسسة الداخلية. وفي العادة، لا يستقبل الملك حتى وزير الخارجية إن زار الرياض.

الرسالة إلى الداخل التونسي كانت واضحة بلا أي شك: الرياض ترحب بشكل خاص بشخص له بروفايل ابن علي. وتلا الزيارة مباشرة انكشاف علني للصراع بين رئيس الحكومة الشاهد ووزيره براهم. إذ تميز الأسبوع الماضي بعملية تشبه التمرد لإحدى النقابات الأمنية، من خلال محاصرة قصر العدالة في ولاية بن عروس، للضغط من أجل الإفراج على أحد الأمنيين متهم في قضية تعذيب. أدى ذلك إلى حالة استنكار واستهجان واسعة للتضامن مع المحامين والقضاة، وفي كل ذلك الوقت بقي الوزير صامتا خلال زيارته للرياض وبعد عودته إلى تونس، باستثناء تصريح يتيم لصحيفة قريبة منه وعد فيه "بالتحقيق الإداري".

رئيس الحكومة استثمر في هذا الاضطراب، وأصدر برقية لعزل المدير العام للأمن الوطني المقرب من وزير الداخلية، ليعلن بوضوح بدء حرب التعيينات بينه وبين وزيره، وهي الحرب الخفية التي بقيت لأشهر بينهما، في سياق محاولات بسط نفوذ كل منهما على الوزارة. في كل الحالات أصبح براهم مرشحا ضمنيا لموقع رئيس الحكومة، وهو ما زاد من أسباب التنافس بين الشخصين.

في كل الحالات براهم، يبدو صامتا، لكن مع ظهور صفحات في مواقع التواصل الاجتماعي تسوق له كرجل المرحلة وتصفه بـ"قلب الأسد"، وأنه سيسحق "الظلاميين" و"الإرهاب"، وسط أنباء نقلتها "عربي21 عن تسليم الرياض له ملفات عن ارتباط أطراف وشخصيات سياسية تونسية بالإرهاب، في إشارة واضحة للتيار الإسلامي في تونس.

هذا الصراع المشخصن للتموقع في مفاصل حساسة للدولة مع التدخل الإقليمي، الواضح من خلال تشجيع طرف على طرف، يأتي في سياق صعوبات اقتصادية واجتماعية كبيرة، أهمها ما يحصل في الحوض المنجمي للفوسفات في قفصة، حيث توقف الإنتاج بسبب الاعتصامات، وآفاق حل المشكلة عبر قوة الدولة، مثلما أشار تقرير لمؤسسة "Global Risks Insights"، والذي توقع أن يتم ذلك مباشرة بعد الانتخابات البلدية في 6 أيار/ مايو القادم، بما يمكن أن يخلق ظروفا مضاعفة لحالة عدم استقرار، وغليان اجتماعي، ومن ثم سياق مناسب للاستيلاء على السلطة من هذا الجانب أو ذاك. أو على الأقل تلك هي المخاوف السائدة. ننتظر لنرى هل ما زال يمكن لأحلام اليقظة الاستبدادية المحلية والإقليمية أن تبسط نفوذها الواقعي، أم أن حالة المناعة الاجتماعية والسياسية في تونس من مرض الاستبداد قادرة على الدفاع عن الجسم الديمقراطي اليافع.
التعليقات (0)