قضايا وآراء

فى ذكرى الشهيد.. كلهم كذبوا وأنت صدقت

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
في 8 آذار/ مارس 1969م، دارت مواجهة عنيفة مع الإسرائيليين، ضمن ما عرف وقتها بحرب الاستنزاف على طول الجبهة. وفي صباح 9 آذار/ مارس 1969، قرر رئيس أركان الجيش المصري أن يكون هناك، فالقائد الحق لا بد أن يكون وسط جنوده يرونه بعيونهم ويصافحونه بأيديهم، إنه الفريق عبد المنعم رياض، أعظم من أنجبت العسكرية المصرية في عصرها الحديث.

وبالفعل كان هناك على الجبهة ليرى نتائج معركة الأمس، وليشارك جنوده في مواجهة الموقف، فيزور أكثر المواقع تقدما، والذي لم يكن يبعد عن مرمى النيران الإسرائيلية سوى 250 مترا، ووقع اختياره على الموقع رقم 6 بالإسماعيلية، إذ كان أول موقع يفتح نيرانه بتركيز شديد على العدو في البارحة، والذي ما أن وصل إليه حتى وجهت إسرائيل نيران مدفعيتها بكثافة شديدة عليه. ويبدو أن معلومة تواجده في هذا المكان كانت لديهم.. هكذا استنتج الراحل محمد حسنين هيكل.

مثله كان لا بد أن يموت هكذا، فسنواته الخمسين التي قضاها في الدنيا كانت تسير به على دروب البطولة دربا دربا، ولم يبق للبطولة إلا خطوة كي تتحول إلى أسطورة، وقد كانت في الموقع (6 إسماعيلية). نعاه نزار قباني بكلمات صارخة كلها حسرة وأنين: "لو يُقتَلون مثلما قُتلت/ لو يعرفون أن يموتوا مثلما فعلت/ لو مدمنو الكلامِ في بلادنا قد بذلوا نصف الذي بذلت / لو أنهم من خلف طاولاتهم/ قد خرجوا كما خرجت أنت/ واحترقوا في لهب المجد كما احترقت/ لو قرأوا - يا سيدي القائد - ما كتبت/ لكن من عرفتهم ظلوا على الحالِ الذي عرفت/ يدخنون يسكرون يقتلون الوقت/ ويطعمون الشعب أوراق البلاغات كما علِمت/ يا أشرف القتلى على أجفاننا أزهرت/ يا أيها الغارق في دمائه/جميعهم قد كذبوا/ وأنت قد صدقتْ/ جميعهم قد هزموا ووحدك انتصرت".

كان الشهيد أحد الثمرات الكريمة للزرع الخصيب الذى نثره "عزيز المصري" في جيشنا العظيم في عز الفترة الأزهى والأغنى في عصرنا الحديث (الثلاثينيات والأربعينيات)ـ فيتخرج من الكلية الحربية عام 1941م، وفي عام 1944 ينال شهادة الماجستير في العلوم العسكرية (ترتيبه الأول في التخرج). وما بين عامي 1945 و1946، يُتم دراسته كمعلم مدفعية مضادة للطائرات في بريطانيا بتقدير امتياز، وسيشارك في الحرب العالمية الثانية وفي حرب فلسطين عام 1948 و1956.

سيتم إبعاده أثناء حرب 1967 من مركز الأعصاب الحساسة للقوات المسلحة بالقاهرة؛ إلى حيث يوجد تاريخ الخيانات العربية القديمة في عمان. ويحكي الراحل الأستاذ هيكل عن ذلك قائلا: كانت مشكلته أنه لا يستطيع أن يسكت ببساطة! وكانت مشكلة الآخرين حياله أنهم لا يستطيعون الخلاص منه وإسكاته تحت أي غطاء. فلقد كان امتيازه في عمله لا ينازع، ولم تكن له مطالب شخصية. وعُرض عليه منصب سفير في تلك الأيام، واعتذر؛ لأنه - على حد تعبيره - ضابط وابن ضابط (سيأتى بعدها من يحلم بأن يكون سفيرا في لندن بعد خروجه من الخدمة العسكرية). وفي عام 1964 م سيكون تعيينه رئيسا لهيئة أركان حرب القيادة العربية الموحدة حلا مناسبا للجميع. ظل في الخدمة، وفي نفس الوقت لم يعد يسبب إزعاجا للمشير عامر وشلته في لياليهم الملاح.

وفي 11 حزيران/ يونيو، وبعد أسبوع من الكارثة الكبرى، يستفيق الزعيم الكبير، ويعلم (حين لا يُجدي العلم) أن العسكرية المصرية العظيمة بها من الأفذاذ ما يفوق عامر وشمس بدران و"جنرالات الليالي" الذين سلمهم جيش مصر العظيم كي يتفرغ للزعامة في إفريقيا وآسيا، وباقي أركان المعمورة، فيختاره رئيسا لأركان حرب القوات المسلحة المصرية.

بعد تسلمه قيادة أركان الجيش، يطلب الشهيد فورا قرارين جمهوريين: الأول أن تكون فترة شغل منصب رئيس الأركان محددة (4 سنوات على الأكثر)، حتى لا يتعرض شاغل هذا المنصب العسكرى الحساس للصدأ أو الانقطاع عن التطور بطول المدة، وحتى لا يصبح المنصب حكرا، وحتى يفتح باب المنصب أمام نهر القيادات العسكرية الشابة في القوات المسلحة ويعطي الفرصة للجميع، والثاني توسع القوات المسلحة في تجنيد حملة المؤهلات العليا؛ كون الجندي المتعلم يستخدم سلاحه استخداما صحيحا ويصونه ويتحد معه، ويستغرق تدريبه ربع المدة اللازمة لتدريب غيره، وبما يخدم تكوين جيش قوي وعالمي الكفاءة في أقل وقت ممكن. وبالفعل، صدر القرار الجمهوري.

(لا أصدق أن القادة يولدون إن الذي يولد قائدا هو فلتة من الفلتات التي لا يقاس عليها، كخالد بن الوليد مثلا. ولكن العسكريين يُصنَعون.. يصنعهم العلم والتجربة والفرصة والثقة .إن ما نحتاج إليه هو بناء القادة وصنعهم".. الطريف أن الاستاذ هيكل، حين نقل عنه هذه الكلمات التي قالها في محاضرة مكتوبة في كلية الأركان، استبدل اسم خالد بن الوليد بنابليون!! سنقرأ له أيضا ناصحا جنوده: "أن تتبين أوجه النقص لديك، تلك هي الأمانة، وأن تجاهد أقصى ما يكون الجهد بما هو متوفر لديك، تلك هي المهارة".

حين نما إلى علمه أن هناك مفاوضات خلفيه تجرى لعودة سيناء كاملة إلى مصر ضمن تسوية وتفاهم، طلب لقاء البكباشي في لقاء منفرد، وقال له: "لن نستطيع أن نحفظ شرف هذا البلد وضميره الأخلاقى بغير معركة عندما أقول شرف البلد فلا أعني التجريد هنا وإنما أعني شرف كل فرد شرف كل رجل وكل امرأة". هنا تتزايد الشكوك الشائكة الشاكية الباكية حول الظروف التي صاحبت استشهاد الجنرال العظيم. على فكرة، البكباشي تخرج من الكلية الحربية بعده بسنة (1938).

في اليوم الأربعين بالتمام والكمال لاستشهاد رياض، سنعرف أن أحد الأبطال الذين سيتردد اسمهم بعد ذلك كثيرا من على لسان كل من يتحدث عن حرب 1973.. إنه الشهيد إبراهيم الرفاعي الذي يقود الوحدة "38 قتال" لتدمير الموقع الذي انطلقت منه القذائف على الشهيد بالموقع "6 إسماعيلية"، وقتل كل من فيه بمعداتهم، وكان عددهم 44 ضابطا وجنديا اسرائيليا، بينهم ثلاث رتب كبيرة.

"زعق الوابورع السفر/ أنا قلت كان بدري/ نعق الغراب ع الشجر/ خطفه الفراق بدري/ عيط عليه القمر والنجمة في البدري/ يا عترة الحراس يا بو الايدين تنباس/ ياريتنى كنت معاك وشربت نفس الكاس/ الشعب كله رياض/ ورياض مثل يا ناس".. هكذا نعاه أحمد فؤاد نجم. وبالفعل كان رياض مثلا يا ناس.
التعليقات (0)