قضايا وآراء

التغيير العربي العصِيّ

امحمد مالكي
1300x600
1300x600

مَرَّت على انطلاق الحراك العربي، أو ما سمي " الربيع العربي" سبعُ سنوات، سقطت خلالها نظم سياسية، واستمرت أخرى، ولازالت بعضها تترنح بين السقوط والاستمرار.

 

غير أن النتائج في جوهرها لا تُقنع بأن طريق التغيير نحو الأفضل واضح، وسالك، ولا رجعة فيه، بل بالعكس بدأ يتزايد تخوف لدى الكثير من المجتمعات العربية من أن تعود الأوضاع، وبشكل أسوأ، إلى ما كانت عليه قبل العام 2011 .

 

الشاهد على ذلك ضمور روح الحراك، وتساقط شعاراته ومطالبه، وانكسار إرادات طلائعه من الشباب والنساء وكامل الفئات التواقة إلى إعادة بناء شرعية جديدة للدولة والسلطة في عموم البلاد العربية، ودخول الخارج على خط الحراك، والتمكن من مصادر قوته، والاستحكام في تأطيره وتوجيهه.

 

لذلك، يحفز استعصاء انجاز التغيير في المجال العربي أكثر من استفهام وسؤال، ويدعو إلى التفكير في مظان العجز العربي عن التقدم على طريق الانتقال نحو الأفضل، كما حصل في مجمل مناطق العالم خلال الربع الخير من القرن العشرين، وهي في مجملها سلسلة َأسئلةِ ذات طلبعة مِفتاحية، تستَحضِرُ دورَ المعرفة والثقافة في تفسير لماذا غدا سؤال الإصلاح والتغيير عصِيّاً على الإجابة في البلاد العربية.

 


يتعلق السؤالُ الأول بمنطلَقِ الإصلاح وبدايته: من أين نبدأُ الإصلاح من أجل التغيير؟ ، فالمقدمات الفاسدة تُرتبُ، كما يُقال، نتائج فاسِدة.، والحال أن العرب، دولاً ومجتمعات، عاشوا حيرةً وقلقاً متزايدين بخصوصِ الطريق إلى الإصلاح، على الرغم من وجود ما يشبه الإجماع حول دواعيه ومتطلباته، وقد عبَّرت السجالات الدائرة رسمياً وجماهيرياً عن وجود شعور جماعي موسوم بالترقب والإنتظار حُيال أفق الإصلاح: فهل يجب نهج الإصلاح التدريجي النابع من الأسفل ، الذي يُفترض أن تلعب منظمات المجتمع المدني أدواراً مركزية في إنجازه؟، ثم هل يمكن للضغط الخارجي المساهمة في إنضاج ظروف الإضلاح و المساعدة على تحقيقه؟، وإذا كان ذلك ممكناً ومرغوباً فما هي الحدود التي يتوجب عليه عدم تجاوزها، أي هل هناك خطوط حُمر يتوقف عندها الضغط الخارجي، كي لا يتحول إلى عامل مُعيٌق للدينامية الداخلية للإصلاح؟..ألا يشكل رفعُ اليد عن التغاضي عن الممارسات غير الديمقراطية للنظم ، و الكف عن تشجيع السلوكيات المسئولة عن الاختلال العميق الحاصل في توزيع القوة بشقيها السياسي والمالي، أكبر دعم لنجاح عملية الإصلاح وتقدمها؟.


يتوقف نجاح المقدمات في ترتيب نتائج ناجعة على حسن التفكير والتوافق على جملة مرتكزات مفصلية ، وهي في الظن ليست مرتكزات من طبيعة نظرية وفلسفية فحسب ، بقدر ما هي كذلك أسس ناظمة لعملية الإصلاح ومتحكمة في تطورها.

 

فالإصلاح الناجع موسوم بالشمولية ، بعيد عن التجزيئية والتقطُّعِ، بنيويُ الأهداف والمقاصد. فهل من الممكن تصور نتائج ناجعة للإصلاح إذا بقي محصوراً ، على سبيل المثال، في الاقتصاد ، على أهميته القصوى، دون إصلاح الإختلالات الاجتماعية ) العدالة الاجتماعية (، ودون إصلاح نظم التعليم، أي تكوين رأس المال البشري، ودون مصاحبته بإصلاح سياسي يمكِّن الناس من التعبير عن قدراتهم وتطلعاتهم، ويجعلهم منخرطين في مسلسل المشاركة السياسية؟. والإصلاح.، من زاوية ثانية، يستلزم التدرج والانتظام في مراكمة النتائج، بغية مساعدة المجتمع على تقبل جُرعاتِهِ، وإسعافه في الإرتقاء والمطالبة بالتطوير، والأهم جعله يلمس نتائجه كي يطالب بما هو أفضل منها.


يتعلق السؤال الثاني بمعرفة المجالات التي تعد رافعات إستراتيجيةً للإصلاح. فمن المعلوم أن النزوع نحو العولمة في تزايد مضطرد، وبغض النظر عن الموقف الفكري من هذه الظاهرة، وحتى على فرض انها واقع لا مفرَّ منه، يُستَلزم من العالم العربي )دولاً ونخباً ومجتمعات ( توضيح رؤيته من بعض المشاريع ذات البُعد القِيمي والمرجعي المطروحة عليه، فالحاصل أن الانتساب إلى دائرة الليبرالية الجديدة ، كنمط اقتصادي، لم يعد موضوعَ سجال، غير أن تطبيق إقتصاد السوق وما يرتبط به من آثار سلبية جانبية يقتضي استحضار البُعد الاجتماعي طالما أن ليس هناك نسخةً واحدة لاقتصاد السوق .

 

 ففي العديد من الدول الأوروبية )ألمانيا و الدول الأسكندنافية على سبيل المثال (هناك ما يسمى " إقتصاد السوق الإجتماعي"، أي ذلك النمط الذي يتجنب منطق إقتصاد السوق الشَّره، دون أي إعتبار للبعد الإجتماعي والثقافي، لأن إعتماد الليبرلية الإقتصادية في نسختها الشرهة يزيد في تعميق الإختلالات الإجتماعية ، في مجتمعات تعاني من أزمة عميقة في توزيع القوة بشقيها السياسي والمالي.فإلى جانب مجال الإقتصاد والمرجعية الناظمة له، تشكل السياسة أحد المجالات الإستراتيجية الرافعة لمشروع الإصلاح.

 

وفي هذا السياق تتصدر المسألة الدستورية قائمة الإصلاحات السياسية المطلوبة، يُضاف إلى ذلك إصلاح القضاء، وبناء المؤسسات التمثيلية ، النزيهة والفعالة.


أما السؤال الثالث، فيمُسُّ قضية جوهرية، تتعلق بمن هُم شركاء الإصلاح، و مناصِروه والداعمون له؟. وحيث أن الإصلاح المفتوح على التغيير والمؤدي إليه عملية تاريخية تدريجية غير خطية، فإن مستلزمات نجاحه تقتضي من بين ما تقتضيه بناء التأييد وكفالة تحقيق التضامن حوله. وتخبرنا التجربة التاريخية العربية كم كان ضعف بناء التأييد في أساس إنتكاسة المشاريع الإصلاحية في البلاد العربية، فقد عانت فكرة الإصلاح من وجود شرخ بين دعاتها ) الدولة أو النخبة (، وبين منتقديها، فلا الدولة ولا النخبة قَدِرتا على جعل الإصلاح مطلباً مجتمعياً أصيلاً ومُلحاً، ولا المجتمع تمكن من التعبير عن مطالبه في الإصلاح باستقلالية كاملة، وحيث استبد هذا الشرخ بالإصلاح استمر هذا الأخير مقولةً غير متأصلة في المخيال الجماعي العربي.. ولربما تلك أهمُّ أسئلة الإصلاح في الزمن العربي الراهن.

0
التعليقات (0)