كتاب عربي 21

الأيقونة بين "محمد صلاح" و"هاني البطش"

محمد هنيد
1300x600
1300x600

من شروط نجاح أي نظام سياسي مهما كانت طبيعته قدرته على السيطرة والتوجيه والتحكم في بنية المجتمع المادية وكذلك في بنيته غير المادية أي كل ما تعلق بالأفكار والتوجهات والتصورات والرؤى. أما البنية المادية للمجتمع فإنما تتمثل أساسا في المعطي الأمني الحسي المباشر بما هو أول شروط اللازمة لتحقيق السلم الاجتماعي الأوّلي الضامن لتحقيق التواصل بين الناس وإشباع حاجياتهم و هي بنية ضرورية أيضا لتطبيق القانون والعدل بما يسمح بتعايش الناس في صلب مجموعة بشرية معينة.

 

لا تقتصر البنية المادية للمجتمع على هذا المعطي بل تتضمن كذلك المعطى الاقتصادي واللغوي والجغرافي والغذائي وغيرها من المعطيات الحسية التي تدخل في إطار ما يسمى بالأمن الاجتماعي وتعتبر من شروطه الأساسية. أما البنية غير المادية للمجتمع فإنما تتمثل في مجموع الأفكار والرؤى والتصورات التي تمثل ما يصطلح عليه الوعي الشعبي في مستواه الآني أو الثقافة الشعبية في بعدها الزمني الممتد بفعل عنصر التراكم.


صحيح أن البنية المادية هي الأكثر حضورا بسبب طابعها المباشر والمادي لكننا نعتبر أن البنية المادية إنما يتأسس وجودها على البنية غير المادية بمعنى أن البنية الفكرية في المجتمع والدولة هي المتحكم في البنية المادية والموجه لها. من الصعب حسم هذا الإقرار تحليليا بسبب التداخل الكبير بين البنيتين من ناحية وبسبب الخلفية الفلسفية والسياسية للعلاقة بينهما لكننا نطلق في هذه القراءة من علوية شبكة الأفكار والرؤى والتمثلات في توجيه المجتمع وفي السيطرة عليه أحيانا كثيرة.


بناء على ما تقدم تحتاج الدولة أو بالتحديد السلطة السياسية إلى خلق نماذج توجه الأفكار الرائجة في المجتمع وتتحكم في تطورها وانتشارها. هدف السلطة السياسية من ذلك هي المحافظة على الوضع القائم من الذهاب إلى وجهة لا تريدها وهي انعدام الاستقرار والنماء في الدولة الديمقراطية و انهيار المنظومة القمعية في الدولة الاستبدادية.


هنا تمثل الصورة أو الأيقونة أو الرمز أداة أساسية في سياسة السلطة وفي استراتيجيتها التواصلية من أجل الهيمنة والتوجيه والمراقبة والمحافظة على الوضع القائم. 


بالأمس القريب تعرض العالم والباحث الفلسطيني "فادي البطش " إلى عملية اغتيال جبانة بعد أن قامت فرقة اغتيالات صهيونية على الأرجح بتصفيته رميا بالرصاص وهو في طريقه إلى صلاة الفجر. وقبله قامت فرقة من فرق الموساد المختصة بتصفية العالم محمد الزواري أمام منزله في وضح النهار بمدينة صفاقس وسط تونس. 


عبّر الشارع العربي عن شعوره بالصدمة من هول الاغتيالين خاصة وأنهما يحملان آثار عدوان معنوي على الجماهير المقاومة وارتباط كل منهما بحركة التحرر الفلسطيني. لكن في المقابل وبخلاف ردة فعل الشارع فقد تجاهل النظام الرسمي العربي وخاصة منه الجانب الحكومي الجريمة وكأنها لا تعنيه بل إن أصواتا كثيرة تؤكد أن النظام الرسمي ضالع في هذه الاغتيالات كما هو الحال في اغتيالات كثيرة سابقة.


إن تملص النظام الرسمي العربي وإعلامه من مسؤولية الدفاع عن الرموز العلمية العربية هو موقف واضح من أنها تسبب له الحرج من جهة أولى وأنها من جهة ثانية لا تخدم رؤيته السياسية هذا إن لم تقوضها. إن رفض الإعلام العربي الرسمي الاعتراف بجريمة اغتيال أبنائه من العلماء والنابغين والمطورين ورفض النظام الردّ القانوني على هاته الجرائم أمام المحاكم الدولية المختصة يكشف بجلاء تواطؤه معها بل وترحيبه بها. 


لكن في الجهة المقابلة عجّت منصات الإعلام العربي بأيقونات من نوع آخر تختلف في ميزاتها وفي خصائصها عن النوع الأول. ليست صورة لاعب "نادي ليفربول" "محمد صلاح" إلا واحدة من هذه الصور الرموز والأيقونات فلا نجد في إعلام الحكومات العربي إلا صور الفنانين ولاعبي كرة القدم والممثلين ممن يتصدرون مشهد التعبير عن النظام وعن رؤاه وتصوراته.


السؤال الجوهري هو التالي: لماذا يحتفل النظام الرسمي العربي بصور وأيقونات ورموز دون أخرى؟ السؤال يمكن أن يأخذ شكلا أعمق عبر الصياغة التالية: لماذا يحتفي النظام الرسمي العربي بقطاعات وميادين دون أخرى؟ لماذا لا يحتفي بالعلم والعلماء والمطورين ويحتفي بكل قطاعات الترفيه والفن والأطراف الرخوة من الثقافة؟ لقائل أن يقول أيضا إن الدول المتقدمة أيضا تصنع أيقوناتها وتعمل على توظيفها وتفعيل دورها الاجتماعي؟


لا يختلف اثنان في أن السلطة السياسية العربية هي سلطة قمعية بامتياز بل إنها تعد من آخر النماذج القمعية في العالم لكنها تعد أيضا من أشرس هذه النماذج وأكثرها دموية وتوحشا. ليس الإقرار السابق إنشاء ولا تجنيا بل لقد أثبتت ثورات الربيع الأخيرة هذه المسلمة وأقرت فعلا بدموية الاستبداد العربي الذي قبل بتدمير الدولة والمجتمع وذبح الملايين وتشريد عشرات الملايين من أجل السلطة والبقاء في الحكم. 


إن تجارب العراق وسوريا والجزائر واليمن ليست إلا نماذج حية عن قدرة الاستبداد العربي على التوحش ومصادرة الدولة والمجتمع لا من أجل الدفاع عن الوطن أو عن السيادة أو عن المجتمع نفسه بل من أجل البقاء في السلطة فقط.


في المنظومة الاستبدادية العربية يحتل مركزَ الأيقونة والرمز الأوحد رأسُ الدولة ورئيس البلاد باعتباره أيقونة الأيقونات ورمز الرموز وتاج السلطة الذي لا ينازع. لقد أسست النزعة الاستبدادية العربية نفسها على تأليه صورة الزعيم فاخترعت ما جادت به قرائح إعلام النظام وأذرعه الفكرية من الألقاب والأسماء والنياشين اللفظية .من الزعيم الخالد عبد الناصر إلى المجاهد الأكبر بورقيبة إلى خادم الحرمين في السعودية إلى بطل العبور السادات إلى الأخ القائد القذافي إلى رجل التغيير بن علي إلى غيرها من الألقاب ومن التسميات الموغلة في الألوهية والتأليه.


الزعيم الحاكم هو الرمز وهو القائد ولا أيقونة تعلو عليه. 


بناء على هذه الهرمية في النظام لا يمكن أن تسمح الدولة العربية بأيقونة جديدة إلا بما هي تواصل و بما هي تكملة للأيقونة الكبرى وهي رأس النظام  أي أن الرموز المحلية لا بد أن تكون في خدمة الزعيم السياسي أو لا تكون. من هنا يوجّه الزعيم كل المواهب والقدرات والنجاحات لتصب في صورته وتزيدها بريقا فيصادر إشعاعها الشخصي لتصب في صورته هو فتزيدها لمعانا.


يواجه النظام السياسي الاستبدادي مشكلتين أساسيتين في التعامل مع الرموز الوطنية والأيقونات الشعبية : تتمثل الأولى في تطويعها بشكل لا تتجاوزه هو بل تصب في مصلحته المباشرة ولا تتعارض مع ثقافته والوعي الذي يحكم به. أما الثانية فتظهر في منع قيام نماذج ورموز وأيقونات تتعارض مع مشروعه الاستبدادي والوعي المصاحب له. 


إن برامج "عرب أيدول" وكل مسابقات المواهب والنجوم والطاقات والمبدعين إنما تصب في هذا السياق من أجل تدجين الطاقات الشبابية خاصة وتطويعها لصالح ثقافة الحاكم. وهي تجربة أثبتت نجاعتها عندما رأينا كيف هبّت نخب الفن خاصة والرياضة والثقافة  لنجدة النظام الاستبدادي في مصر وتونس وليبيا وسوريا لحظة أطاحت به جماهير المسحوقين وهم ينشدون بناء ثقافة جديدة وخلق أيقونات حقيقية غير مزيفة. 


لا تكون الرموز العربية ولا الأيقونات الشعبية ولا النخب عامة نماذج حقيقية صادقة إلا متى التحمت بمطالب المعذبين في الأرض العربية وعبرت عنها ورفعت راية حرية الإنسان أولا وأخيرا وساندت أمواج الجماهير المطالبة بإنهاء مصادرة كرامة الانسان على أرضه. ثورات الربيع كانت لحظة فرز حاسمة صفّت الكثيرين وغربلت وفرزت ولا تزال.

2
التعليقات (2)
اينشتاين
الخميس، 26-04-2018 11:58 م
أخي هنيد ، المسألة كلها تتعلق بالإنسان الحر ، والإنسان الحر هو الذي لا يقبل أن يكون عبدا إلا لله ، أما العبيد فلا يحسنون سوى الانبطاح في ساحات الاستبداد ، فمهما بحثت لهم عن مخرج إلا وعادوا من جديد للانبطاح ، الصهاينة والصليبيون يخشون حركة الأحرار ، خصوصا إذا كانوا علماء ، العبيد لا يختلفون في مشاعرهم ومواقفهم من تلك الأيقونات . قرأت أن الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين سيعقد له مؤتمرا شاملا حول " الإصلاح والمصالحة العربية و الإسلامية " في مدينة اسطنبول في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل ، والاتحاد العالمي للعلماء المسلمين ذاته لم يلتفت ، ولو ببيان على حياء ، بخصوص مقتل العلماء من أمثال محمد الزواري وفادي البطش ، وعلى هذا الأساس خطر لي ، ويمكن أن أكون مخطئا للغاية ، خطر لي أن الفرصة قائمة ، ويمكن أن لا تتجدد في حق الاتحاد ، إذ يمكنهم الإعلان من اسطنبول حل اتحادهم والعودة إلى حيث يقيمون فيجلسون إلى شعوبهم المسحوقة فيتحسسون آلامها ويقاسمونها همومها ، لعلها تفتح لهم قلوبها فيتجدد الوعي على طريق التفوق الحضاري بعيدا عن الشعارات الجوفاء والخطب التي لا تسمن ولا تغن من جوع ، حينها فقط يمكن أن يبارك الله في مسعاهم ، وحينها فقط يمكن أن تطلبهم اسطنبول ورئيسها رجب طيب أردوغان الذي سينتخبه شعبه الحر في القريب العاجل ، ليس ليخطبوا ، أو ليصفقوا ، أو يحتفلوا ، ولكن ليحملهم مزيدا من التوجيهات من أجل المثابرة رفقة الشعوب المسحوقة التي تتوق إلى التحرر من دائرة الاستبداد ، حينها فقط يمكن أن يجد أحرار أمتنا من العلماء الباحثين التربة الملائمة لمجهودهم واجتهادهم حتى تثمر على طريق التفوق الحضاري ، وحينها فقط يمكن أن نحرر العبيد من محنتهم ، وحينها يمكن أن يؤدي الأحرار دورهم الرسالي ، فيشهدوا على الناس حتى يظفروا بإذن الله بشهادة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
تصحيح
الخميس، 26-04-2018 07:55 م
فادي وليس هاني