كتاب عربي 21

عندما لم يستمع القذافي لنصيحة بورقيبة

صلاح الدين الجورشي
1300x600
1300x600
منذ إقدام العقيد القذافي على الإطاحة بالملكية في ليبيا، وهو يحلم بضم تونس وإنجاز وحدة معها. استعمل كل الوسائل، حاول إقناع الرئيس بورقيبة، وسعى إلى استقطاب بعض الشخصيات المؤثرة، وقام بإغراء الجهات التونسية بإنجاز مشاريع ضخمة، ولجأ أحيانا إلى التفكير في تصفية مسؤولين محليين معادين للفكر القومي، مثل الوزير الأول الهادي نويرة، أو الوقوف وراء عملية "قفصة" التي دفعت ببورقيبة نحو اللجوء إلى فرنسا التي تدخلت لإفشال تلك الخطة. كما عانى العمال التونسيون من التقلبات السياسية للعقيد، حيث قام بترحيل عشرات الآلاف منهم، وأعادهم إلى تونس في ظروف سيئة من أجل إرباك النظام، وحرصا منه على تعميق التناقض بين التونسيين وقياداتهم السياسية، عسى أن يؤدي ذلك إلى ثورة تطيح بحكم بورقيبة مما يمكنه من قطف الثمرة.

في مرة واحدة، كاد العقيد القذافي أن يصل إلى هدفه، وساعده على ذلك المرحوم محمد المصمودي، وزير خارجية تونس في ذلك الوقت، وأحد المقربين الرئيسيين من بورقيبة. ففي لحظة لم يكن خلالها الرئيس التونسي يتمتع بكامل وعيه السياسي، حيث فاجأ الجميع بقبول فكرة إنجاز وحدة اندماجية مع الجارة ليبيا، وتم إطلاقها بسرعة عجيبة من خلال "إعلان جربة"، دون استشارة بقية أركان مساعديه أو استشارة الشعب التونسي في هذا القرار المصيري. لكن تمكن الجناح المناهض لهذه المبادرة من أن يجهضها بسرعة نادرة، حيث تم إشعار بورقيبة بخطورة ما أقدم عليه، خاصة وأنه قبل ضمن هذا الاتفاق بأن يكون القذافي وزيرا للدفاع في حكومة الوحدة، وهو ما من شأنه أمام احتمال القيام بانقلاب عسكري، وهكذا تراجع بورقيبة وسارع إلى إلغاء الاتفاق ليجد القذافي نفسه في حالة تسلل.

لم تكن معظم زيارات القذافي إلى تونس مبرمجة قبل فترات من الزمن، كما هو معمول به في التقاليد الدبلوماسية المتعارف عليها بين الدول. ففي مرات عديدة، تقوم السلطات الليبية بإعلام الطرف التونسي بأن العقيد ينوي القيام بزيارة له غدا أو بعد 48 ساعة. وكان ركبه يختار المدن التي ينوي قضاء جزء من الوقت فيها. وفي كل مدينة يختارها، تنصب فيها خيمته المعروفة التي يشعر في داخلها بالراحة والأمان.

في إحدى هذه المناسبات كان الرئيس بورقيبة ملازما للفراش، وقد أعلموه بأن القذافي في تونس، وأنه راغب في أن يلقي خطابا جماهيريا بقاعة البلماريوم التي كانت من أبرز قاعات السينما في العاصمة، قبل استبدالها بمركب تجاري ضخم. كان من عادات بورقيبة الاستماع إلى الإذاعة التونسية منذ الفجر، وقد تابع خطاب ضيفه بكل اهتمام وقلق، ولم يستفزه فقط طابعه التحريضي، وإنما لكونه أيضا يتناقض تماما مع مفهومه للدولة القطرية، ويتعارض مع أولوياته الخارجية ومصالح تونس التي تربطها بأصدقائها الغربيين. لهذا تغلب على حالته الصحية، وتوجه مباشرة إلى حيث يوجد العقيد. وما أن دخل القاعة حتى ضج الجمهور بالتصفيق، واضطر القذافي للتوقف عن مواصلة خطابه تاركا المجال لمضيفه صاحب البيت والقرار.

كانت لحظات غير عادية، تباينت خلالها المواقف والآراء وقدرات التوجيه والتأثير بين شخصيتين يختلفان في كل شيء: السن والخبرة وفن الخطابة والرؤية وبعد النظر. لم يتحفظ الرئيس في كلامه، حيث قرر أن يعامل ضيفه كتلميذ، ووقف أمامه كأستاذ يعلمه فن السياسة وكيفية التعامل في مجال العلاقات الدولية. ومن أهم ما أستحضره من ذلك الخطاب، تأكيده على أن الوحدة العربية طموح مشروع، لكنها تحتاج إلى المرحلية وإعداد الشروط الضرورية حتى لا تخضع للارتجال، وتتعرض للفشل المتواصل مثلما حصل مع مختلف المبادرات الوحدوية التي تمت سابقا في المشرق العربي.

ومن أهم هذه الشروط الذي وردت في خطاب بورقيبة، استكمال بناء الدولة الوطنية وضمان وحدة الشعب الليبي. وفي هذا السياق، لم يذكره فقط بتاريخ ليبيا الحديث، ولكن أيضا دعاه إلى بذل جهود ضخمة من أجل تحقيق الوحدة بين القبائل الليبية حتى لا تعود إلى الانقسام والصراع والتفكك. كما حذره من التعامل باستخفاف مع القوى الدولية، قائلا له إن تغير موازين القوى العالمية لا يتم بمجرد القول "طز في أمريكا"؛ لأن أمريكا بإمكانها أن "تعطيك طريحة ولا تستطيع أن ترد الفعل". ضحك الحاضرون بمن فيهم القذافي والوفد المصاحب له، إذ تعني كلمة "طريحة" في اللهجة التونسية أنها قادرة على ضربك على قفاك.

كان العقيد يعتقد بأن بورقيبة رجل متقدم في السن ولا يعي ما يقول، وأنه في نهاية الأمر يبقى "عميلا" للغرب ويخشى مواجهة الكبار، وليست لديه القدرة أو الثقافة الثورية التي تجعله قادرا على التحدي، لكن ما حصل فيما بعد كشف بوضوح أن بورقيبة لم يكن يومها يهذي، وأن الثورة لا تعني تضخما لغويا أو ارتجالا في إدارة العلاقة مع الشأن المحلي والدولي. لقد انتهى الأمر بالتجربة الليبية إلى انهيار ضخم بعد التدخل العسكري الفرنسي الذي أنهى حكم العقيد، حيث تم قتله بطريقة وحشية وغير إنسانية، تاركا وراءه بلدا مقسما وقبائل متحاربة، وثروات منهوبة، ووصاية دولية جاثمة على الجميع. يتذكر المرء كل ذلك وهو يتأمل في وضع هذا البلد الذي يبحث له الآخرون عن الشخص "المناسب" ليتولى توحيده بالقوة، ولكن دون سيادة.
التعليقات (1)
عماد
الإثنين، 30-04-2018 06:59 م
"حيث تم قتله[القذافي] بطريقة وحشية وغير إنسانية" هل خفي على الكاتب لما أبدى هذا الراي من قد يكون وراء اغتياله و ما سينجر عن ذلك ؟ لو كان لابي رقيبة أرض شاسعة غنية بالثروات المعدنية مثل ليبيا لتعجرف مثله بل ربما سلك طريق أتاتورك الذي كان منبهرا به. أشاطرك الراي في "أن الثورة لا تعني تضخما لغويا أو ارتجالا في إدارة العلاقة مع الشأن المحلي والدولي" ولكنها لا تعني كذلك انبطاحا وعمالة. على رسلك أجد تقاربا بين خطاب "المجاهد الأكبر " وعبد الفتاح مورو مع فارق أكثر واقعية ألا وهو ارتباط شعوبنا بالإسلام . متى كان المجتمع القبلي مشكلة لتساند جهل أبي رقيبة ؟ عليك بالرجوع الى علم الإجتماع ليتبين لك ذلك. الغريب فى مقالك أنك لم يقدم كاتب المقال لنا مفهوم الشعب الليبي والشعب التونسي ! لو قارنهما بمفهوم الشعب الفرنسي مثلا لتبين للكاتب بساطة تفكير الرجلين