مقالات مختارة

هل لإسرائيل قاعدة خلفية في تونس؟

نزار بولحية
1300x600
1300x600

يختارون هدفهم بدقة، وينفذون خططهم بمهارة، ويرتكبون الجريمة تلو الأخرى، دون أن يتركوا وراءهم دليل إدانة واحد. لكن إن كانت البعرة تدل قطعا على البعير، أفلا تدل بالمثل أيضا بعض الآثار والعلامات التي خلفها الإسرائيليون في الغارات والاغتيالات التي ارتكبوها في تونس على أنهم يملكون بها ما يشبه القاعدة أو الحاضنة اللوجستية التي تسندهم، وتدعم كل أعمال القتل والترويع التي ارتكبوها على أرضها على مدى عقود؟

نعلم جيدا أنه باستطاعة أي إسرائيلي أن يزور تونس، وحتى غيرها من البلدان العربية الأخرى، مستخدما هوية أوروبية أو أمريكية أو روسية، أو حتى عربية، ونعلم أيضا أنه بإمكانه أن يختار لنفسه مهنة أو وظيفة تناسب طبيعة المهمة التي جاء لأجلها، كأن يقول مثلا بأنه مراسل صحافي قدم لتغطية الانتخابات، أو أنه ملاحظ أوروبي جاء لمراقبتها، أو أنه حبر من أحبار اليهود وقد قدم مثلا لزيارة المعبد اليهودي الأشهر والأقدم في تونس، لمناسبة الزيارة السنوية. 

ولكن هل يستطيع أي إسرائيلي مهما كانت أساليبه وخدعه ومهاراته أن يحقق شيئا من خططه، بدون الاستعانة بأحد من أهل الدار؟ لقد سمعنا الكثير عن صولات التونسيين وجولاتهم وبطولاتهم في حرب الثمانية وأربعين ثم في باقي الحروب والمعارك التي خاضها العرب نصرة لما كانوا يعتبرونها قضيتهم المركزية. غير أننا لم نسمع ولم نقرأ إلى الآن لا الكثير ولا القليل عن خيانات البعض منهم ومؤامراتهم تحت الطاولة، وربما فوقها أيضا مع المحتل الإسرائيلي. فهل كان غياب أو تغييب ذلك الجانب بالذات السبيل الأقرب لطمسها وإبقائها بمنأى عن أعين الباحثين والمهتمين؟

لاشك بأن معظم التونسيين كانوا ومازالوا مناصرين صادقين وشرفاء لفلسطين، ولن يحتاجوا لأن يقدموا شرحا أو دليلا على ذلك. لكن ألن يكون مهما لهم أن يعرفوا قبل غيرهم من أبناء جلدتهم، من ساعد إسرائيل في كل الجرائم المريعة التي ارتكبتها على تراب تونس، بدءا بقصف حمام الشط وصولا إلى اغتيال المهندس محمد الزواري؟

ومن كان وربما مازال يدعي نصرة فلسطين في حين انه يناصر من حيث يدري أو لا يدري إسرائيل؟ لنأخذ مثلا جديدا قضية آخر اغتيال ما يزال غامضا وملتبسا، بحسب الرواية الرسمية. فعلى افتراض أن المثل الفرنسي الشهير الذي يقول «أن تأتي متأخرا أفضل من أن لا تأتي أبدا» ينطبق على تلك القضية بالذات. فهل كان من الضروري حقا أن ينتظر التونسيون ما يقرب من عامين كاملين ليعرفوا بعدها بالنهاية أن القاتلين المفترضين للمهندس محمد الزواري هما بوسنيان، وأن احدهما معتقل الآن في كرواتيا؟ أم أن ما حصل هو أن المنتظرين والمتابعين منهم لسير التحقيقات صاموا كل تلك المدة ليفطروا بالأخير على بصلة؟ ألم يكن ممكنا مثلا أن يشاهدوا بعد يوم أو يومين أو حتى أسبوع من الاغتيال صورة أو صورا تقريبية للجناة، مثلما فعل الماليزيون حين نشروا بعد أربعة أيام فقط من اغتيال الدكتور فادي البطش صورة تقريبية لأحد القتلة المفترضين له؟ ربما لا تكون الظروف المحيطة بالاغتيالين واحدة بالضرورة، ولكن أليس القاتل هو نفسه حتى وإن لم يعترف الماليزيون والتونسيون بذلك؟ 

المؤكد هو أن اغتيال القائد الحمساوي في واضحة النهار وبالشكل الصادم الذي تم به أمام بيته في مدينة صفاقس، سلط ضغطا مضاعفا على المحققين حتى يصلوا إلى الجناة ويكشفوا عن المتورطين بأقصى سرعة. فلم تكن القضية التي بين أيديهم حادثة قتل عادية، مثلما زعمت بعض المصادر في الساعات الأولى لاغتيال الزواري، ولم يكن بإمكان الرأي العام أن يصدق أن جهة أخرى غير إسرائيل هي التي خططت ونفذت ووقفت وراء الجريمة. 

لكن لم يكن أيضا من السهل على السلطات بالمقابل أن تتحمل على ما يبدو تبعات أي اتهام أو إدانة رسمية لإسرائيل، حتى لو كان ذلك من الناحية المبدئية والسياسية فقط. لقد كان الأمر بمثابة ورطة حقيقية للكثيرين في تونس. ولعلكم تذكرون جيدا كيف أن التحول المفصلي كان البيان الذي أصدرته كتائب الشهيد عز الدين القسام بعد يومين من الاغتيال، معلنة فيه أن «الشهيد القائد المهندس محمد الزواري، هو احد القادة الذين اشرفوا على مشروع طائرات الأبابيل القسامية، التي كان لها دورها الذي شهدته الأمة وأشاد به الأحرار في حرب «العصف المأكول»، فقد سلط في اليومين اللذين سبقا ذلك البيان ما يشبه الضغط الإعلامي لتحويل مجرى القضية، من قضية اغتيال سياسي مدبر إلى قضية قتل عمد، أو ربما حتى على وجه الخطأ لشخص مجهول قد لا يعني مصيره أحدا غير أفراد أسرته.

ولاحظ الجميع كيف أربك بيان الكتائب كل المشككين والمروجين لفكرة الحادث الجنائي العادي، وجعلهم يسارعون للحاق بصف المطالبين بإكرام الشهيد وإقامة جنازة رمزية له تعويضا عن تقصيرهم في حضور جنازته التي لم يكن عدد الحاضرين فيها يتجاوز بضع عشرات من الأفراد. وربما كان بحث التونسيين عن لحظة إجماع وطني افتقدوها عند اغتيال الناشطين شكري بلعيد ومحمد البراهمي هو ما جعلهم يلقون بكامل المسؤولية على إسرائيل وحدها، بدون أن يطالبوا في الوقت نفسه بالكشف عن التونسيين الذين سهلوا لها تلك الجريمة وكانوا طرفا أساسيا في تنفيذها، لكنهم لم يطالوا لا عنب الشام ولا بلح اليمن، ولم يحققوا الإجماع الوطني حتى في الجنازة الرمزية للمهندس الزواري مفضلين الطريق الأسهل ومكتفين بالمبارزات اللفظية حول من يكون بينهم الأجدر من غيره للدفاع عن حق الشهيد، تاركين الملف في عهدة تحقيق رسمي لا أحد يعرف متى وكيف سيغلق بشكل نهائي. ولم نسمع حتى الآن ولو صوتا واحدا للصحافة الاستقصائية الحرة، يكشف أو يثبت علاقة التواطؤ والخيانة في الاغتيال، ولم نر تحركا لناشطي الجمعيات الأهلية أو ضغطا من الحقوقيين وحملات لأجل معرفة الحقيقة، والجواب على ذلك السؤال المعلق حول وجود قاعدة خلفية لإسرائيل في تونس من عدمه. 

والمحير حقا هو أن لا شيء من ذلك حصل حتى في قضية اغتيال أبو جهاد التي مضى عليها الآن اكثر من ثلاثين عاما. فلم يعرف التونسيون إلى اليوم من أعطى الأوامر للحرس بالانسحاب من أمام بيت أبو جهاد، أو من قام بقطع خطوط الهاتف والكهرباء عن كامل الحي الذي كان يقطن فيه قبل وقت محدود من العملية، وكيف تحرك كوماندوس الاغتيال الإسرائيلي بكل تلك الأريحية والحرية، بدون أن يرصده أو يحاول التصدي له احد. ولم يكشف إلى الآن أيضا عن الطرف الذي زود الإسرائيليين بمعلومات حول مقر الزعيم الراحل عرفات في ضاحية حمام الشط، وهل أنه حصل تواطؤ ما من بعض الجهات المحلية في قصف المقر أم لا؟ وإذا كانت الشكوك حول وجود تلك القاعدة الخلفية مجرد أوهام فما تفسير نجاح الإسرائيليين إذن في طمس أي دليل إدانة دامغ على تورطهم في اكثر من جريمة في تونس؟ لكم تقدير الجواب.

القدس العربي

0
التعليقات (0)

خبر عاجل