كتاب عربي 21

"مهاتير" و"أنور إبراهيم" ووقائع قضية الشذوذ!

سليم عزوز
1300x600
1300x600

كلا الرجلين بشر، لم تمنع بشريتهم أن يكون أحدهما واحداً من البنائين الكبار، كما لم تمنع الثاني من امتلاك مقومات هائلة كانت تؤهله لأن يخلف الأول. لكن لأنهما بشر، فقد تمكن منهما حب السلطة الذي هو رأس كل خطيئة، فكان حبها وراء نسيان الفضل بينهما، حد أن يكيدا لبعضهما، فأحدهما فكر في الإطاحة بالآخر، فعاجله بالضربة القاضية، حيث دفع به للسجن في قضية مخلة بالشرف، ليقضي على مستقبله السياسي!

في القاهرة، شاهدت مذكرات "مهاتير محمد" مترجمة لدى الباعة، لكني لم أهتم بقراءتها، لكن الأمر اختلف بعد الانقلاب، وحرصي على الاطلاع على تجارب الآخرين في الحكم، وقد وجدتها في مكتبة "الشبكة العربية للأبحاث والنشر"، وهي مكتبة في منطقة "الفاتح" بإسطنبول، مملوكة لمثقف خليجي، تقول المنشورات الصادرة عنها إن لها فروعاً في عدد من العواصم العربية. ومكتبة لبيع الكتب العربية في بلد ليست ناطقة بها لا أعتقد أنها تستهدف الربح، وإن كان الحضور العربي الحالي يمكن أن يجعلها مشروعاً للمستقبل!

اشتريت الكتاب، ضمن ما اشتريت في زيارتي قبل الأخيرة، لكني لم أتمكن من حمله معي للدوحة، بسبب "الوزن" المقرر للطائرة، ولم تكن المذكرات هي فقط ما اشتريته من هذه المكتبة، فضلاً عن أن "شُحنة" للكتب كانت قد وصلتني لإسطنبول، فلم يمكن إرسالها لي في قطر، كما هي العادة، بسبب الحصار. وعندما عدت من تركيا مؤخراً ومعي المذكرات، كان "مهاتير محمد" قد فاز للتو بمنصب رئيس الوزراء، فكان هذا سبباً اضافياً للإقدام على قراءتها، وهي تقع في ألف صفحة من القطع الكبير، وقد حملت عنوان: "طبيب في رئاسة الوزراء"!

فـ"مهاتير" محمد هو هذا الطبيب الذي صار رئيساً للحكومة الماليزية، وعلى غير العادة، فمثل هذا المنصب كان حكراً على القانونيين، كما يقول صاحبنا، وهذا الأمر لم يمنعه من التطلع مبكراً لشغله، ولم يجد حرجاً في أن طموحه لذلك كان مبكراً، وقد عمل من أجل الوصول إليه، حتى فاز بذلك في سنة 1981، وهي الفترة التي بدأ فيها القيادي الإسلامي الشاب "أنور إبراهيم"؛ في التخطيط للانضمام إلى الحزب الحاكم "أمنو" الذي يشغل "مهاتير" منصب رئيسه أيضاً.

 

يقر "مهاتير محمد" بإمكانيات "أنور إبراهيم" الفائقة، فقد أثبت أنه ذكي حتى في تلك المرحلة

يقول صاحب المذكرات إن رغبة "أنور إبراهيم" في الانضمام إلى "أمنو" فاجأته؛ "لأن عمله مع الاتحاد الإسلامي في ماليزيا وتصريحاته العامة جعلته حليفا طبيعيا للحزب الإسلامي"!

بيد أن مصلحة "إبراهيم" كان في الالتحاق بـ "أمنو"؛ لأنه لم يكن سيحرز تقدماً في السياسة وهو خارج الحزب، "كان سيعمل في معسكر المعارضة إلى الأبد وبلا طائل، وهو آخر شيء يريده".

وإذ لامته قيادة "اتحاد الشباب الإسلامي" على قراره، فقد أقنعها بأنه يهدف إلى الإصلاح من الداخل، وأن أجندته تنص على جعل الحكومة إسلامية، والانضمام إلى الحزب هو خير وسيلة لتحقيق ذلك!

يقر "مهاتير محمد" بإمكانيات "أنور إبراهيم" الفائقة، فقد أثبت أنه ذكي حتى في تلك المرحلة، إذ استطاع إقناع الاتحاد والخروج من معسكره من دون قطع روابطه به، كما استطاع إقناع أحزاب المعارضة بأنه يتفق معها جميعا!

وفي وصفه له، يقول "مهاتير" عن عضو الحزب الجديد، إنه واسع الاطلاع، وقادر على الاستدلال بأقوال عدد من الفلاسفة. وهو يجيد اللغة الملاوية إجادة كاملة، كما أنه مولع باستخدام اللغة الأدبية في خطاباته. ومع أن أغلبية المصطلحات التي يستعملها دفعت الناس إلى الرجوع للقواميس، فقد أعجبوا كثيراً بأسلوبه الخطابي. واستطاع الاختلاط بالأكاديميين داخل البلاد وخارجها، وكان في استطاعته استمالة العرب شديدي التدين مع البقاء على وئام مع اليهود المتعصبين المعادين للعرب، وكانت له سفرات كثيرة وهو قائد شاب، حيث التقى بقادة أفغان وباكستانيين، وعدد من القادة الشبان المعروفين من المسلمين وغير المسلمين، "وبدا أن لديه ما يرضي الناس جمعيا، وزامل أشخاصا مثل بول وولفويتز، الذي كان مساعد وزير الدفاع الأمريكي المنتمي إلى معسكر المحافظين الجدد آنذاك، ومساندا قويا للعدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين وعلى العراق، كما تودد إلى وسائل الإعلام الدولية مقدما نفسه كليبرالي معارض لعدد من ممارسة الحكومة الماليزية التي كان هو نفسه عضوا فيها، وأوهمهم بالأمال بأن الأمور ستتغير ما أن يتولى السلطة".

في موضع آخر، يقول "مهاتير" في وصف قدرات "أنور إبراهيم": "رسم لنفسه صورة مدهشة على الساحة العامة، كما أدهش الصحفيين الأمريكيين والغربيين بأفكاره التي تبدو ليبرالية، ورتب أمر زيارة أعضاء في مجلس الشيوخ ومجلس الكونجرس الأمريكيين إلى ماليزيا كل سنة، وغطى تكاليف تلك الزيارات بأموال جمعها، فاعتقد هؤلاء أنه سياسي ليبرالي وديمقراطي فأحبوه.. واحتفظ في الوقت ذاته باتصالاته مع عدد من الناشطين الإسلاميين في العالم الإسلامي".

 

أنور إبراهيم "رسم لنفسه صورة مدهشة على الساحة العامة، كما أدهش الصحفيين الأمريكيين والغربيين بأفكاره التي تبدو ليبرالية"



ربما لم ير "مهاتير محمد" في قدرات "أنور إبراهيم" مشكلة، وإن قيادات في الحزب شعروا بالقلق، ورأوا في ذلك أزمة بالنسبة لهم من هذا الوافد الجديد الذي ينطلق للمناصب العليا بسرعة الصاروخ، ومنهم من اعترض على مجرد ضمه للحزب.. وربما لم يجد "مهاتير" أزمة حتى في صلات صاحبه الدولية، حتى وهو يقول إن الأمريكيين كانوا يكرهونه ويحبون "أنور"، فربما وجد في قدرات الرجل واتصالاته إضافة إلى حزبهما الحاكم. وقد ذكر هذا أكثر من مرة، بيد أن الأزمة في تململ "إبراهيم" من كل منصب يصل إليه، ويطمع فيما هو أعلى!

التحق "أنور إبراهيم" بالحزب الماليزي الحاكم في سنة 1982، وهو العام الذي شهد اختيار "مهاتير محمد" له لمنصب "مساعد وزير"، فجاء له معرباً عن خيبة أمله؛ لأنه لم يجعله وزيراً بحقيبة. وقد ذهل "مهاتير" لذلك، وأخبره بأن هناك من هم أرفع منه داخل الحزب، وأنه "لا أحد قفز من ناقد للحكومة إلى عضو كامل في وزارة في هذا الوقت القصير".

وفي العام نفسه، نافس على موقف حزبي مهم هو رئاسة الشبيبة داخل الحزب، وفاز بذلك، ثم تململ سريعاً، ونافس على منصب نائب رئيس الحزب، وبعد ذلك كان طموحه مساعد رئيس الحزب، وهو بحسب التقاليد يتم تعيينه مساعدا لرئيس الحكومة، أي الرجل الثاني!

وبعد ذلك بدا أن عينه على منصب "مهاتير محمد"، وكان مستعجلاً لتقاعده، فانطلق يهاجم الفساد في السلطة، ويلمح إلى فساد رئيس الحكومة نفسه، وقام بإبلاغ الصحافة بقضايا فساد قال إن رئيس الحكومة هو بطلها.

 

وبحسب "مهاتير محمد"، فقد حقق في الأمر، ونشر أسماء جميع الأشخاص الذين فازوا بعقود حكومية حين كان "أنور" وزيرا للمالية، وهم من أصدقائه وأقاربه


وبحسب "مهاتير محمد"، فقد حقق في الأمر، ونشر أسماء جميع الأشخاص الذين فازوا بعقود حكومية حين كان "أنور" وزيرا للمالية، وهم من أصدقائه وأقاربه، "وظهر أيضا شخص أو اثنان من أفراد أسرتي أو معارفي، لكن عقودهم كان أصغر حجما بكثير"!

لقد بات "أنور إبراهيم" يمثل خطراً على "مهاتير محمد"، وفي سنة 1998، "ازداد وضوح مساعي أنور لإرغامي على التنحي، رغم أني لم أقلق كثيرا، وتوترت علاقاتنا". فهل لم يقلق كثيراً فعلاً؟ وما حجم هذا القلق؟ إنه لم ينف أنه قلق فعلا، وهذا مهم في فهم عملية الانتقام بعد ذلك، بتصفية غريمه تماماً بقضية الشذوذ الجنسي!

في أكثر من موضع، يتحدث "مهاتير" عن إحساسه بالثقة بأنه إذا نازعه "أنور" رئاسة الوزراء بشكل مباشر سيبقى قادراً على التغلب عليه، وهذا التكرار يؤكد أن الرجل كان قلقاً جداً من ذلك!

احتشد "مهاتير محمد"، من أجل أن يؤكد صحة اتهام غريمه بممارسة للواط، فإذا بالأدلة التي ساقها لا يمكن أن تصلب طولها عند أي فحص جاد لها، وتبدو كهشيم تذروه الرياح من أول نظرة، وهى القضية التي دمر بها مستقبل "أنور" السياسي واستخدمها لفصله من الحزب ومن الحكومة، وسجنه بعد ذلك! ليوحي بأن الأمر لا علاقة له بطمع "إبراهيم" في موقعه، حاول "مهاتير" أن يرجع الأزمة إلى سنة 1993، أي قبل خمس سنوات من احتدام الخلاف، فقال إن المفتش العام لجهاز الشرطة طلب مقابلته وحدثه عن تقارير تفيد بـ"سوء سلوك أنور الجنسي"! وإن كان قد تجاهل الأمر، فإن الشرطة واصلت تحرياتها، وفي ظل الأزمة وصله خطاب من صحفي بعنوان "50 سبباً لاستحالة أن يصبح أنور رئيسا للوزراء"!

 

احتشد "مهاتير محمد"، من أجل أن يؤكد صحة اتهام غريمه بممارسة للواط، فإذا بالأدلة التي ساقها لا يمكن أن تصلب طولها عند أي فحص جاد لها


وفي نفس الوقت وصلته رسالة من امرأة تتضمن مزاعم أكثر تحديداً وتفصيلاً عن شذوذ أنور إبراهيم، وهي شقيقة محمد عزمين، السكرتير السياسي لأنور، وبعد شهر أرسلت هذه المرأة رسالة تتراجع فيها عن رسالتها الأولى، وفي وقت لاحق ينسب "مهاتير" للشرطة أنها كشفت أن هذه السيدة تعرضت لضغوط قام بها ضابط ضدها لصالح "أنور" لحملها على التراجع!

ويقول صاحب المذكرات: في هذه الأثناء واصلت الشرطة مراقبتها لأنشطة مساعد رئيس الوزراء (يقصد أنور إبراهيم)، "وعندما تقدم لي مفتش عام الشرطة الجديد ومساعده الأدلة، وكانت صورا واعترافات لأشخاص ضالعين في القضية، أدركت أنني لا أستطيع تجاهل المعلومات وقلت إنني أريد الاجتماع بالشهود والتحدث إليهم"!

لم يوضح "مهاتير محمد" المقصود بالصور، لكن من قراءة السياق، هي ليست صوراً خاصة بممارسة اللواط، فهل كانت صوراً خاصة باعترافات الشهود؟ وما الذي يدفع إنساناً للاعتراف على نفسه بذلك، بل وبإعلان التحدي، إلا إذا كان واقعاً تحت ضغط أو إغراء؟!

لقد التقى "مهاتير" بالشهود واستمع إليهم، كل على حدة، وهو أمر يوحي بأنهم مجموعة كبيرة، فإذا بمواصلة القراءة يتبين أنهما شخصان، لا أكثر، بجانب أربع نساء قال "مهاتير" إنهن أخبرنه بأن رجلاً هندياً أقنعهن برؤية شخص واسع النفوذ، ليكتشفن أنه "أنور إبراهيم"، وعند أول اللقاء طلب إليهن نزع ثيابهن ليعاشرهن جنسيا، وقد وافقت اثنتان منهن! ويبقى السؤال: ما الذي دفعهن للاعتراف على أنفسهن، لا سيما من استجبن لطلبه بنزع ثيابهن؟!

ومن الأدلة، ما ذكره صاحبنا من أن أحد الضالعين في ممارسة الشذوذ مع "أنور إبراهيم" أقسم على القرآن في مسجد الأراضي الفيدرالية بأنه عاشر أنور جنسياً وتحداه بالحلف على القرآن وانكار معاشرته له. ليدخل "مهاتير محمد" بنفسه على الخط، ويطلب من "أنور" أن يحلف على القرآن وإثبات أنه بريء!

 

من الأدلة، ما ذكره صاحبنا من أن أحد الضالعين في ممارسة الشذوذ مع "أنور إبراهيم" أقسم على القرآن في مسجد الأراضي الفيدرالية بأنه عاشر أنور جنسياً


أي أدلة هذه، والشرطة على مدى خمس سنوات من التحريات، لا تستطيع أن تثبت الاتهام بالصوت والصورة، وعلى مدى خمس سنوات، تكون العلاقة بينه وبين الرجال محصورة في شخصين، ولمرة واحدة؟! من الواضح أن أحدهما فقط هو من اعترف لأسباب تخصه، كما أن التحريات في مجال العلاقات النسائية لم تثبت سوى أمر واحد لم يتكرر، وهو أن النساء الأربع اللاتي قام الهندي باصطحابهن، ولم يعرفن السبب من الاستدعاء إلا عندما وجدن أنفسهن أمام "مهاتير محمد"، فماذا قال لهن وهو يقنعنهن برؤية شخص واسع النفوذ؟ فهل كان الهدف أن يلتقطن معه سلفي، لا سيما وأن اثنتين منهن رفضن الأمر بنزع الثياب؟!

أمام المحكمة نفى الدفاع وقوع اللواط، لكن "مهاتير" محمد يحمل على المدعي العام لأنه لم يقل شيئاً ردا على ذلك، وهو يرجع هذا إلى أن المدعين العام ليسوا أكثر من موظفين، فالأمر راجع لخطأ تقني، وأن عدم وقوع الجريمة في هذا اليوم لا يعني أنها لم تقع على الإطلاق!

قد لا يكون "مهاتير" محمد وراء هذه القضية بالكامل، وقد يكون خصوم "أنور إبراهيم" في الحكومة استغلوا الخلاف ليدغدغوا مشاعره بالتحريات والاعترافات وما إلى ذلك، وليضربوا ضربتهم في التخلص منه، ليجد "مهاتير" في هذه القضية رمية بغير رام؛ للتخلص ممن يهدد وضعه الوظيفي والسياسي، وربما رأى أنه لا يمكن القضاء على شخصية يعترف هو نفسه بأنه "كاريزمية" إلا بقضية من هذا النوع، لكن من الواضح أنها أزمة عمره التي أرقته كثيراً، فكتب عن "أنور إبراهيم" فصلين في مذكراته، وفي الصفحات (481- 493)، (805- 821)، وقد أوجعه أن قطاعاً عريضاً في الداخل والخارج لم يقر بهذه الاتهامات الموجهة إليه، ونظر إلى ما يجري معه على أنه من باب التنكيل!

 

من الواضح أن مهاتير وجد أنه أخطأ في حق ماليزيا بما فعل، فأنور سيكون أفضل لها من وضعها البائس الآن، فقرر أن يصلح الخطأ بخوض الانتخابات

ويقول في مرارة: "أنور رجل كاريزمي بلا شك، ويعرف كيفية إغراء الناس بدعمه، وكل ما فعلته من أجله في الماضي طواه النسيان. اعتبرت أني ضحيت به وألقيته في السجن، كما لو أنه لم يمثل أمام المحكمة"، وأنه يوصف بأنه رئيس الوزراء الذي ألقى بصاحبه في السجن!

المذكرات انتهى منها "مهاتير" في سنة 2011، لكن من الواضح أنه وجد أنه أخطأ في حق ماليزيا بما فعل، فأنور سيكون أفضل لها من وضعها البائس الآن، فقرر أن يصلح الخطأ بخوض الانتخابات وهو في أرذل العمر ليرد لأنور اعتباره، على ذنب هو من فعل السياسة قاتلها الله.

رحم الله "مهاتير محمد" إنه أواب.

التعليقات (2)
حسين
الأحد، 20-05-2018 11:09 ص
الى مصري جدا الى مصري جد الحسن بن علي لم يسلم بعد ان سلم الخلافة لمعاوية قام معاوية بقتله بالسم
مصري جدا
السبت، 19-05-2018 05:35 م
ما لفت نظري هو ان معايشة الازمات والمعاناة لسنوات تختصر عند الكتابة عنها في عدة سطور او كلمات ،،، الامر الاخر اننا نعلق سوء اخلاقنا وانهيار قيمنا ومبادئنا على شماعة انها السياسة قاتلها الله ،،، هذا الامتحان الذي لم ينجح فيه احد إلا الامام الحسن بن علي رضي الله عنهما ،،، عندما ترك منصب الخلافة حقتا للدماء

عصر الانحطاط!

13-May-18 03:26 PM