مقالات مختارة

هل يقدر المغاربيون على مقاطعة الأمريكان؟

نزار بولحية
1300x600
1300x600

قاطعوا بعض ماركات الحليب وعلب المياه. فهل يقدرون أيضا على مقاطعة الأمريكان؟ لن يكون المحفز الوحيد لهم لفعل ذلك هو إزاحة إيفانكا ترامب ستارة لوحة السفارة الأمريكية في القدس بالنيابة عن أبيها. فالجميع يعلم تمام العلم أن المحتل والمغتصب لم يكن الكيان الإسرائيلي وحده، وأن الأمريكان كانوا أكثر من شركاء في كل الجرائم التي ارتكبت على الأرض المقدسة. 

لكن هل يمكن أن يكون ذلك المشهد بالذات بالنسبة لهم منطلق حراك جديد، وأن يقدم المغاربيون قبل المشارقة المشغولين بحروب دونكيشوتية مع إيران، على توجيه أصبع الاتهام للأمريكان معلنين شكلا من أشكال المقاطعة لهم؟ أم أن المغاربيين لا يختلفون في شيء عن المشارقة، الذين أداروا ظهورهم من زمان لفلسطين، رغم كل ما يرددونه من شعارات ثورية؟ نعرف أنهم شاركوا قبل سبعين عاما في حرب الثمانية والأربعين، متحدين الصعوبات والعوائق التي واجهوها فترة الاستعمار الفرنسي المباشر، وابلوا فيها البلاء الحسن. 

أفلا يكون جديرا الآن بأحفادهم تجديد مناصرتهم للقضية التي ضحى من أجلها أجدادهم بأسلوب مخالف يتعدى المواجهة المباشرة مع العدو الإسرائيلي إلى مقاطعة أكبر داعميه وهي أمريكا؟ لقد فعلها المغاربة واستطاعوا منذ أسابيع أن يقاطعوا بشكل فاعل ومؤثر بعض ماركات الحليب والمياه المعلبة، وحتى محطات الوقود، مستجيبين لحملات «مقاطعون» و»خليه يريب» (دعوه يفسد) و»مازوطكم حرقوه» (أحرقوا وقودكم) التي سرعان ما انتشرت كالنار في الهشيم على شبكة الإنترنت، للرد على موجة ارتفاع أسعار تلك المواد. واقتفى الجزائريون أثرهم ونجحوا في الترويج على مواقع التواصل الاجتماعي لوسم «خليها تصدي» اعتراضا على أسعار مركبات النقل في البلاد، قبل أن يتبعهم الليبيون بدورهم ولو بشكل محدود، حين أطلق بعض ناشطيهم في الأيام الأولى لشهر رمضان وسم «خلو الحليب عندكم» للضغط على الشركات المحلية حتى تخفض أسعار الحليب.

لكن لا المغاربة ولا الجزائريون ولا الليبيون، ولا حتى التونسيون، الذين خرجوا للشوارع بالآلاف في ديسمبر الماضي في مظاهرات حاشدة، للتنديد بقرار ترامب نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، اطلقوا حتى الآن أي حملة لمقاطعة أي منتج من منتجات العم سام، التي تملأ بيوتهم وأسواقهم، تعبيرا عن رفضهم للقرار الأمريكي المذكور، ما يطرح اكثر من نقطة استفهام حول سبب غياب أي بادرة مغاربية من ذلك القبيل. فهل أن المغاربيين لا يتحمسون بطبعهم لمقاطعة، أي بلد أو منتج إلا في حال ما اذا تعلق الأمر بوجود تهديد جدي ومباشر لجيوبهم أو بطونهم؟ أم أن مناصرتهم لفلسطين لا تتعدى الخط التقليدي المعروف، أي التنديد الرسمي والتظاهر والاحتجاج الشعبي المؤقت والمحدود، وتبلغ أشكالا أخرى أوسع مدى وأشد عمقا وتأثيرا؟ 

لنقر بداية بان التفكير في مقاطعة بلد مثل أمريكا ليست بالأمر الهين أو السهل حتى بالنسبة لأقوى اقتصادات الدنيا وأكثرها صلابة وتماسكا، فما بالك بدول المنطقة التي تشكو في الغالب من وهن وضعف بنيوي فادح، ومن مشاكل وصعوبات لا حصر لها، رغم أنها ترتبط تجاريا واقتصاديا بأوروبا اكثر من ارتباطها بالقوة الكونية الأكبر. ولكن من يعتقد أن أي دولة مغاربية تستطيع في الظرف الحالي أن تقدم على خطوة مماثلة، وان تقاطع أمريكا حتى دبلوماسيا وتستدعي مثلا سفيرها في واشنطن، أو تخبر السفير الأمريكي المعتمد لديها بأنه بات شخصا غير مرغوب فيه، وانه بات مطالبا بأن يغادر البلد ولو بشكل مؤقت مثلما فعل الأتراك مع القنصل الإسرائيلي في اسطنبول. 

لا شك بأن أي واحد من الدول الخمس لا يقدر أو يجرؤ على فعل ذلك. خذوا مثلا تونس. ففي ديسمبر الماضي خرج احد مستشاري الرئيس قائد السبسي ليعلن في قناة تلفزيونية خاصة عن استدعاء الرئيس التونسي للسفير دانيال روبنشتين إلى قصر قرطاج، لإبلاغه موقف تونس الرافض لقرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. وقد فسر اللقاء حينها على انه خطوة جريئة وغير مسبوقة، لم يقدم عليها أي رئيس عربي، تعبيرا عن معارضته للخطوة الأمريكية الأخيرة. وخرجت نقابة الصحافيين في ذلك الوقت لتدعو الصحافيين والنخب التونسية إلى التحرك ضد ذلك القرار «الظالم والخطير» وإلى مقاطعة أنشطة السفارة الأمريكية في تونس.

لكن لا أحد عرف ما الذي جرى تحديدا بين الرئيس والسفير، ولا أحد سأل أيضا عن حقيقة لقاء وزير الخارجية خميس الجيناوي قبل يوم واحد فقط من قرار ترامب نقل السفارة للقدس بالسفير الأمريكي المعتمد في تونس، الذي ذكرت وكالة الأنباء الرسمية انه جرى خلاله «بحث واقع العلاقات التونسية الأمريكية، وسبل الارتقاء بها في جميع المجالات، بالإضافة إلى الاستحقاقات الثنائية المقبلة واستعراض عدد من القضايا الإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، ومنها مستجدات الأوضاع في الشرق الأوسط، بحسب نص البيان الذي نشرته، ولا احد اهتم بعدها باللقاء الذي جمع الجيناوي بالسفير الأمريكي في الثالث من الشهر الماضي، والذي أكد فيه المسؤول التونسي، بحسب البيان الرسمي للوزارة، «حرص تونس على تطوير علاقات التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية بما يتماشى وعراقة أواصر الصداقة بين البلدين ومتانتها، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية الملحة، التي تمر بها تونس حاليا وحاجتها إلى دعم أصدقائها وشركائها»، تبعا لما جاء في نص البيان الذي نشرته معظم وسائل الصحف ووسائل الإعلام المحلية، في تجاهل واضح لدعوة النقابة لمقاطعة أنشطة السفير والسفارة. 

فهل كان يعني كل ذلك شيئا آخر عدا عن أن دعم فلسطين ليس سوى مسألة لفظية لا يمكن أن تؤثر بأي حال على ما وصفه البيان الرسمي بالحرف بالحاجة إلى دعم الأصدقاء وعلى رأسهم الأمريكان بالطبع؟ المؤكد أيضا أن مثل تلك الوضعية تنطبق على باقي الدول المغاربية، التي لا تستطيع أن تفرط بعلاقاتها مع أمريكا مهما بلغت حماستها لقضية فلسطين.

لكن ما لا يقدر عليه الرسميون يمكن أن يقوم به بالتأكيد غيرهم. فإذا كانت مقاطعة الأمريكان صعبة وربما مستحيلة على المسؤولين الحكوميين، فما الذي يمكن أن يمنع شباب مواقع التواصل مثلا من الضغط لتفعيل قوانين تجريم التطبيع مع إسرائيل، المعروضة في كل من تونس والمغرب ومن إطلاق حملات لمقاطعة البضائع الإسرائيلية والأمريكية، أو ما الذي يمكن أن يمنع اتحاد نقابات العمال التونسي من أن يعمم قرارا اتخذه اتحاد النقابات المحلي بصفاقس بمقاطعة السفن الأمريكية التي ترسو بميناء المدينة ودعوة العمال للامتناع عن انزال شحناتها على باقي الموانئ التونسية ؟ وقبل ذلك وبعده هل ستحتاج الشعوب لقرار رسمي بمقاطعة السلع والمنتوجات الأمريكية حتى تبادر بتطبيقه؟

قد تكون حاجتها الوحيدة هي لمن يقنعها بان هناك أشياء ليست ادنى أهمية من الدفاع عن الجيوب والبطون، وأن من يسقطون كل يوم بالرصاص الأمريكي للمحتل اغلى من كل ماركات الحليب وعلب المياه التي احتجت على غلائها وان ادنى أشكال التضامن معهم هي أن تعلن مقاطعتها لمن يرسل الرصاص ويحمي القتلة، ومن يطلقه بتلك الوحشية على الفلسطينيين. 


القدس العربي

0
التعليقات (0)