قضايا وآراء

رزان النجار.. ليس كل الصمت نسيانا

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
كان من سوء حظي أني لم أعرف رزان إلا بعد استشهادها، حدث هذا رغم أني كنت على بعد أمتار قليلة منها، وربما مرت بجواري أو مررت بجوارها في ميدان خزاعة عشر مرات على الأقل.. حزنت إذ أخبرني صديقي: "لقد كانت معنا في ندوة أساليب النضال السلمي"، ربما هي عادتي ألا أدقق في الوجوه كثيراً، لكن هذا المبرر لم يقنعني، أخشى أن هناك سبباً أكثر جوهريةً، وهو أن نفسي المضطربة بالصراع ليست أهلاً للانجذاب إلى روح نقية بريئة مثل روح رزان، ليتني عرفتها وتحدثت معها قبل أن ترحل.

لكن صوت العقل يزاحم شوق الوجدان: ماذا لو عرفتها في حياتها؟ لم أكن سألحظ شيئاً مميزاً، كان سيعجبني عطاؤها وإيثارها خدمة الناس على راحتها وسلامتها وصفاء قلبها، لكن لم أكن لأراها في ثوب القديسة قبل أن تموت. إن جمال الإنسان لا يكتمل إلا حين يكتب الفصل الأخير من قصة حياته. كانت تضيق نفسي من قبل لأننا لا نتفطن إلى جمال أحبابنا إلا بعد أن يفارقونا، لكنني فكرت مؤخراً بأن شيئاً من الوجاهة يحتمله هذا الموقف. فالإنسان ما دام في الأرض فإنه لا يزال في طور الاختبار والمكابدة والمجاهدة، يصيب ويخطئ، تنال منه مكدرات الحياة مثلما تنال منا، حتى إذا ختم حياته بعد عطاء وإحسان؛ اكتمل جماله وتحرر من أثقال جسده، وحلقت روحه في السماء عالياً فكان لنا ملهماً وإماماً..

كان أول عهدي برزان بعد ساعتين من استشهادها، انصرفت تلك الجمعة من ميدان ملكة أشعر بالراحة لأنه لم يسجل أي ضحية فيها، وصلت البيت لأسمع خبر استشهادها في ميدان خزاعة. سمعت عنها أول مرة معرفةً وليست نكرةً، لم يقل الناس إن ممرضةً استشهدت، بل قالوا إن رزان النجار استشهدت. فتحت مواقع التواصل ليغمرني طوفان الاهتمام بها ولقاءاتها المسجلة، كانت طاقة روحها العالية تتدفق من كلماتها المسجلة: "أنا هنا لأنقذ حياة أبناء شعبي، بدأت مشواري هنا وسأنهيه هنا، أعمل بكل جرأة وإصرار، لا أتقاضى راتباً ولا أنتظر جزاءً ولا شكوراً، يكفي أن الله يكافئني".

كانت صورة الجريمة الإسرائيلية ناصعة الوضوح في كل التفاصيل، كذلك كانت قوة الإلهام الذي أوحته رزان إلى القلوب بالغ التأثير: أنثى ترتدي رداء المسعفين الأبيض، تؤدي واجبها الإنساني في إنقاذ الجرحى، وشارة العمل الإسعافي بادية لكاميرات القناصة من جنود الاحتلال، لم تكن تمثل أدنى خطر على أمن إسرائيل، ولم يكن يعتريها أدنى تردد في مواصلة أداء رسالتها بكل عزم.. كانت تتقدم إلى أماكن الخطر بجرأة، متنكرةً لذاتها، وقد استولى على قلبها همّ إنقاذ الناس من الموت.. كانت تحيي نفوساً من الموت، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً.

وليكتمل الجمال، كان رحيلها آخر ساعة من يوم الجمعة في رمضان، وهي صائمة، وتنفق جهدها وحياتها في فعل الخير ومساعدة الناس. أي جمال كانت حياتك عليه يا رزان ليختم لك بكل هذا الجمال؟ ثمة علاقة أكيدة بين مسار حياة الإنسان وبين نهايته.

إن ثمة عالماً روحياً تنطوي عليه سريرة الإنسان تدل قصة حياته المنظورة لنا على جوانب منه.. لا بد أن هناك أسراراً مخفيةً هي التي اصطفت رزان لهذه الفيوض الإلهية من الكرم وحب الناس لها ورفع ذكرها في العالمين.. فاعل خير في قيرغزستان افتتح بئر مياه صدقةً جاريةً عليها، وكتبت عنها الصحف في مشارق الأرض ومغاربها، وتفاعل الملايين مع قصتها، وبكاها الرجال يوم جنازتها دون سابق معرفة كأنما يعرفونها منذ سنين.

ذهبت إلى صفحتها على فيسبوك، رجعت في الخط الزمني عاماً وعامين أستنطق روحها لتبوح ببعض أسرارها، قالت في أحد منشوراتها: "كنت أصدق كل من يحلف بالله؛ لأن مخافة الله جعلتني لا أتخيل أن إنساناً يحلف بالله كذباً".. كانت كلماتها تنبع بالصدق والبراءة، لا تعرف التنميق والخداع.. كانت حاضرة القلب بذكر الله والدار الآخرة وحب فعل الخير، وكان إحساسها مرهفاً ضد القبح والظلم، كتبت: "لن نرى النصر والتحرير ما دام فينا مجاهد فقير وقائد غني". وآخر ما كتبته قبل استشهادها بساعات: "أكثر شيء ممكن يريح ضميرك أن الله دائماً يعرف نيتك".

كان سخاء نفسها وعطاء روحها أقوى من قلة ذات يدها، لقد جادت بما لم يجد به أصحاب الثروات المكنوزة، لم تمتلك رزان مالاً، لكنها انطوت على روح عظيمة تفانت في حب الخير، فلم تعد تشعر بذاتها إلا في ميدان الحب والعطاء.. ثمة كلمات عابرة ينطقها المرء بعفوية فتكشف سريرته. قالت رزان في لقاء مصور: "أغمي علي من قنابل الغاز في ميدان العودة، فلما أفقت ووجدت نفسي في سيارة الإسعاف، جننت وطلبت من المسعفين أن ينزلوني بسرعة، أنا لم آت إلى الميدان لأُعالَج بل جئت لأُعالِج". إنها تخشى أن يحبسها حابس يحرمها من مصدر متعتها الوحيد في الحياة، وهو فعل الخير ومساعدة الناس.

في زيارة إلى بيتها سألت والديها عن أخص خصائص رزان، أجابتني والدتها: العفوية الكاملة والصدق الكامل. كانت رزان طفلةً بريئةَ، كانت ملاكاً، لم تؤذ أحداً في حياتها، كانت إذا أغضبها أحد سرعان ما تذهب لاسترضائه شفقةً عليه. مر بخاطري وأنا أسمع حديث والدتها طيف الرجل الذي وصفه الرسول بأنه من أهل الجنة، ولم يكن كثير صلاة أو صوم، بل كان نقي السريرة متسامحاً مع الناس. هذا هو الطريق السهل الصعب إلى الجنة.. أن تكبر بقلب طفل، وألا يفقدك أذى الناس براءتك. لقد نجحت رزان في هذا الطريق ونحن متعثرون.

أخبرني والدها أنه نالها أذى كثير من كلام الناس، ثم جاؤوا إليه يعتذرون بعد استشهادها. كان أقصى مشاغلهم أنها أنثى لا ينبغي أن تخالط الرجال، بينما كانت قوة إيمانها برسالتها صارفةً لها عن لغو الفارغين ولمزهم. كانت تقول: ما الناس وما كلام الناس؟

أضافت والدتها: "كانت رزان زاهدةً في أن يعرفها الناس.. كانت تقطع حديثها للكاميرا ثم تجري مسرعةً نحو السياج إذا سمعت إطلاق نار بحثاً عن جريح محتمل. كانت تقول: لا أريد أن يعرفني الناس..". تعقب والدتها: "قال لها الله: زهدت في أجر الناس طمعاً في أجري وسأفيض عليك من كرمي..".

رزان حجتنا أن للجمال حضوره وإن طغى القبح في هذا العالم.. رزان وإخوانها أنقى ما فينا وأجمل ما فينا.. هي الأيقونة التي نريد للعالم أن يرانا من خلالها.. هي المثال الساطع على بشاعة الاحتلال وقبحه. وهل يقتل ملاكاً مثل رزان سوى مجرم قبيح؟!

كتبت رزان ذات مرة: "إن الله أخفى الملائكة عن أعين الناس لأن الناس يؤذون بطبيعتهم". خطرت ببالي خاطرة: هل يمكن أن تعيش بيننا ملائكة على هيئة بشر ليبصرونا بالجمال ويساعدونا على المرور في هذا العالم الموحش فإذا أتموا رسالتهم رحلوا سريعاً!

"ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكةً في الأرض يخلفون".
التعليقات (0)