قضايا وآراء

علم التسويق السياسي

نزار الحرباوي
1300x600
1300x600
أشاهد وسائل الإعلام كغيري من الناس، وأتابع وسائل التواصل الاجتماعي أسوة بالجيل الذي انتشرت فيه هذه الوسائل حتى سدت أفق الحياة بتنوعها ومجالات تغطياتها لميول واتجاهات الأفراد، ولكني مع ذلك أشعر بالكثير من السوء حيال ما تعلمناه ونعلمه للأجيال على مقاعد الحياة الأكاديمية، وبين ما نراه ونسمعه في واقع حياتنا في مجال السياسة ومتصدري العمل السياسي والإعلامي ومسوقي السياسيين وصانعي نجوميتهم.

مصطلح ومفهوم التسويق السياسي، برغم كونه حديث المولد كعلم مستقل له أسسه وقوانينه وقواعده وفنونه، إلا أنه معلوم ومعمول به منذ القدم برغم اختلاف العصور والتكنولوجيا ووسائل الاتصال والتواصل. وإن كنا نزعم أننا في زمن الطفرة التكنولوجية الكونية الكبرى، فنحن على اليد الأخرى في زمن الطفرة الروتينية البليدة في حفظ الكلمات وترديد المصطلحات وتغييب السلوك.

التسويق السياسي كعلم ومفهوم يقصد به "عملية نقل لرسالة يقصد بها التأثير على استخدام السلطة أو الترويج لها في المجتمع " كما عرفه سكدسون عام 1989م. وفي ما هو أبعد من هذا التعريف النظري، هناك خبرات وتجارب ونماذج فردية وحزبية ومؤسساتية انتهجت التسويق السياسي لنفسها أو لقياداتها باحتراف وإبداع حتى باتت مدرسة سلوكية معرفية بحد ذاتها.

من هنا، وجدت من المفيد أن يتم التذكير بمنهجيات التسويق السياسي للتيارات السياسية الكلاسيكية في أوروبا، في بريطانيا وفرنسا وألمانيا على وجه التحديد. فبالرغم من استقرار أعداد وأشكال التيارات السياسية المتنافسة في البيئة السياسية هناك بشكل عام، إلا أن كل مرحلة انتخابية تفرز نموذجاً جديداً في فن التسويق السياسي للفكرة والشخص والتيار.

الأمر أكثر وضوحاً في التيارات السياسية اليابانية الكلاسيكية الأربعة، فميدان التنافس بينها أشد تفاعلاً في مجالات الخدمة المجتمعية. والتنافس في صناعة التسويق السياسي وتقديم المرشحين والقيادات والبرامج الانتخابية وقيادات الأحزاب للمستويات المختلفة؛ يمثل صورة تستحق الدراسة والتمحيص، والنموذج التركي حالة أخرى، وفي ماليزيا محاولات تستحق الثناء والمتابعة.

وحتى نقوم بتفكيك المصطلح عملياً، فنحن نتحدث هنا عن ثلاث مفردات هامة مستقلة ذات معنى اجتمعت لتعطي المفهوم العام للمصطلح المقصود، وهذه المفردات هي:

العلم، ويندرج تحت فضائه كل مضمون للأسس والمرتكزات والمكونات والعناصر الفرعية والفنون والوسائل وآليات التنفيذ والمهارات التي تتصل بالمجال التخصصي، وعند إضافة العلم كمفردة إلى التسويق السياسي. فنحن نتحدث عن جميع ما ذكر في ميدان التسويق السياسي، كأسس التخطيط وآليات التنفيذ وترسيم السياسات التواصلية ومهارات فرق العمل والإدارة المؤسساتية ونحوها.

أما مفردة التسويق؛ فتضم في ثناياها معرفة المنتج معرفة تفصيلية لا إجمالية، ومدى الحاجة إليه، وكيفية الاستخدام أو الترويج، والتكنولوجيا المستخدمة في التعريف والاتصال والتواصل، وشخصية المسوِّق أو شخوص المسوقين، كما تشمل معرفة الثمن والأثمان الموازية في السوق للمنتجات الأخرى من ذات الصنف، وحجم المنافسة، وحجم الطلب والعرض، وتوجهات الرأي العام، ودراسات السوق، ومدى الصلاحية للمنتج، والشريحة المستهدفة ونحوها.

وبالحديث عن السياسة كمفردة مستقلة، فنحن نشمل بها الدولة والمجتمع، والحكومة والقوانين، والمواطن والعلاقات الدولية، والتيارات السياسية وبنية المجتمع المدني، ومستويات الديمقراطية والدكتاتورية في المجتمع والممارسة السياسية من السلطة الحاكمة، وعوامل الأمن القومي، ووسائل التأثير في الرأي العام، وموازين وأحجام وأفكار وأطروحات التيارات السياسية ومشاربها الفكرية وقدراتها الاقتصادية والإعلامية والتواصلية مع الدولة والمجتمع، ونحو ذلك من جوانب تتصل بالحياة الحزبية والمؤسسية والحكومة والدولة.

نحن نتحدث عن بحر كبير واسع لا حد له، وعلى شواطئه أناس بمعارف ومستويات وخبرات ومستويات نفوذ مختلفة. فالبعض يخاف من دخول البحر ويأمن على نفسه ما بقي على الشاطئ، والبعض مغامر يحب خوض التحديات، والبعض يحب الاصطياد على الشاطئ ويكفيه ذلك متعة وعملاً، والبعض محترف بالصيد بصنارة عصرية وآخرون ببعض الأخشاب والخيطان والديدان، وغير هؤلاء وهؤلاء من لديه قارب صيد صغير يجازف بدخول أميال في البحر ليصطاد بشبكته صيداً أوفر، وآخرون متمرسون في الصيد البحري لديهم مراكب الصيد المتخصصة وحصتهم من البحر أوفر، ومن يعرف الطعم اللازم وزمن الصيد اللازم ووسيلة الصيد الفضلى حاز على السبق ممن يختارون البحر للصيد، وآخرون غيرهم يلعنون البحر ويرون أنه مصدر الخطر والفيضانات والسوء المستقبلي، وشعراء يتغنون بالبحر وهم لم يبللوا أقدامهم بمياهه.

هذا هو الواقع العملي للتيارات السياسية وكثير من المرشحين السياسيين والمصلحيين في العمل السياسي، ودخولهم لميادين التسويق السياسي تأخذ واحداً من الأشكال السابقة الذكر. والمجتمعات الصامتة اليوم هي حكمٌ حقيقي على ما يتم طرحه وتقديمه. وبرأيي، لن يدوم صمتها بعد تكرار الفشل وتكرار الشخص والنموذج واللعبة والأسلوب والكلمات في كل تسويق يطرح عليها، حتى باتت الشخصيات والبرامج محفوظة عن ظهر قلب، وباتت رائحة الكذب والتهويل والتهوين والتخوين فيها تزكم الأنوف.

@drnizar06
التعليقات (0)