مقالات مختارة

انقلاب يوليو.. من هنا بدأ الانهيار

جمال سلطان
1300x600
1300x600

اليوم هو الذكرى السادسة والستون لانقلاب عدد من الضباط المصريين الشبان على قياداتهام العسكرية، ثم تطوير الانقلاب المسلح إلى انقلاب على النظام السياسي للدولة بكاملها، وإجبار الملك فاروق، ملك مصر، على التنازل عن عرشه لابنه الصغير، ثم تطوير الفكرة إلى تنازل الطفل الصغير عن العرش لصالح قيادة عسكرية من ثلاثة عشر رجلا بقيادة اللواء محمد نجيب، قبل أن ينقلب الاثنا عشر ضابطا على قائدهم الجديد اللواء محمد نجيب ويطيحون به هو الآخر عندما طالب بعودة الضباط إلى ثكناتهم وترك الشعب يختار قياداته الجديدة ديمقراطيا، فاعتقله زملاؤه الضباط الصغار، وأهانوه، وألقوا به في مكان معزول محدد الإقامة تحت الحراسة تدهورت فيه صحته، ولم يخرج منه إلا بعد أن مات جمال عبد الناصر وتولى السادات السلطة في بداية السبعينات.

الانقلاب العسكري في 23 يوليو 1952 أطلق عليه الضباط الشبان في بداية أمرهم وصف "الحركة المباركة"، لكنهم التقطوا بعد ذلك تعبيرا أدبيا اخترعه الدكتور طه حسين، فوصفها "بالثورة"، رغم أنه لم يشارك في الانقلاب ونزع سلطة الملك أي حضور جماهيري، وإنما دبابات الجيش التي سيطرت على الأوضاع وفرضت الواقع السياسي الجديد، ولكنها استعانت بعد ذلك ببعض القيادات العمالية لإضفاء حالة شعبية على الحركة الجديدة، خاصة بعد أن ظهر قلق العمال بعد أن أعدم الضباط اثنين من عمال شركة الغزل والنسيج في المحلة بمحاكمة عسكرية سريعة لم تستمر أكثر من يومين، وقد روى الصاغ خالد محيي الدين وقائع عديدة في مذكراته بعد ذلك عن دفع أموال لاستئجار عمال يحركون مظاهرات شعبية، بل وما هو أفدح من ذلك بتعمد قيام المقدم جمال عبد الناصر ـ وزير داخلية الانقلاب ـ بافتعال عدد من التفجيرات الإرهابية في القاهرة لنشر حالة الخوف، ودفع الناس إلى التمسك بالضباط الجدد كضمانة للأمن والأمان في البلد، وظلت تلك المعادلة قائمة طوال حكم عبد الناصر، لا شراكة للشعب في القرار، لا مكان له في الملعب، وإنما في مدرجات المشجعين والمتفرجين.

عندما قام الضباط بانقلابهم العسكري لم يكن في خيالهم أنهم سيحكمون مصر، كان مشروعهم هو حركة إصلاحية داخل الجيش، لكن الأحداث كشفت لهم عن ضعف المقاومة فطوروا الأمر إلى الاستيلاء الكامل على السلطة وحل النظام بكامله، وبالتالي لم يكن لديهم أي مشروع حقيقي مدروس لقيادة البلاد اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، لم يؤهلوا أنفسهم كرجال دولة، وبالتالي بدأوا يلتقطون بعض الإصلاحات الجزئية التي كان أدباء وسياسيون ومفكرون يطلقونها في المرحلة الملكية السابقة، مثل الأستاذ أحمد حسين ومصر الفتاة في مسألة إعادة توزيع الأراضي الزراعية، وتوسيع قاعدة مجانية التعليم التي نادى بها طه حسين، ونحو ذلك، فكانت رؤية الضباط الشبان محدودة وانتقائية ودعائية ومبعثرة، خاصة وأنهم كانوا من صغار السن، في بداية الثلاثينات في أغلبهم ولا يعرف عنهم أي اهتمامات ثقافية أو علمية.

وضع الضباط الشبان بنودا ستة قالوا أنها "مبادئ" حركتهم، وهي : القضاء على الإقطاع - القضاء على الاستعمار - القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم - إقامة حياة ديمقراطية سليمة - إقامة جيش وطني قوي - إقامة عدالة اجتماعية.

وكانت الديمقراطية ـ بطبيعة الحال ـ أول ضحايا الضباط وحركتهم، لأن الديمقراطية تتناقض بطبيعتها جذريا مع الحكم العسكري، بل كان الضباط أنفسهم ضحايا عسكرة الدولة، بعد أن قاموا بتصفية بعضهم البعض على مراحل، كما أن الحياة الديمقراطية السليمة تمثلت في ظهور نمط جديد من الانتخابات لم يكن العرب يعرفونه من قبل، يحصل فيه الزعيم على 99% من أصوات الشعب، وأصبح هذا الرقم ـ الذي اخترعه عبد الناصر ـ صكا معتمدا لكل النظم المستبدة بطول بلاد العرب وعرضها بعد ذلك، وفي هذه الديمقراطية لا يمكن طرح أي منافس أساسا، كما أنها ديمقراطية لا تقبل وجود أي أحزاب سياسية، وتدير الدولة ومؤسساتها الأجهزة الأمنية الصلبة والقيادات العسكرية.

كذلك الحديث عن جيش وطني قوي انتهى إلى جيش مصري ضائع وكوارث عسكرية، وثلاث هزائم متتالية في أقل من أحد عشر عاما، بدأت في هزيمة 56 والتي ضاعت فيها سيناء للمرة الأولى، ثم هزيمة الجيش في اليمن، ثم الهزيمة الساحقة والمروعة للجيش في 67، ولم تبدأ عملية بناء حقيقي للجيش إلا بعد أن تمت تصفية دولة الضباط، وأما العدالة الاجتماعية فقد انتهت إلى أن تكون نوعا من توزيع الفقر بين المصريين، حيث تراجعت معدلات النمو وانعدمت عملية تطوير البنية الأساسية بفعل سوء إدارة الدولة، وتولي الضباط قيادة الاقتصاد ورئاسة الشركات الكبيرة فورثوها الخراب بطبيعة الحال، مع التورط في حروب غير مدروسة بقرارات سياسية دعائية، مثلما الحال في حرب اليمن وحرب الكونغو، وسوء تقدير الموقف العسكري والسياسي في 67.

القضاء على الاستعمار كان شعارا دعائيا، ظل قابلا للاستخدام في الخطب الإذاعية سنوات طويلة، رغم أن الاستعمار كان يخرج وقتها طواعية من أغلب مناطق نفوذه حول العالم، بتسويات سياسية مع نخب محلية، بعد الخراب الواسع والإرهاق السياسي والعسكري والاقتصادي الذي تعرضت له بريطانيا وفرنسا، وبعد أن ظهرت الولايات المتحدة كقوة عالمية إمبراطورية جديدة، وتغيرت فكرة الاستعمار من احتلال الأرض إلى احتلال العقول والإرادة السياسية، بعد أن ثبت أنها أرخص وأقل تكلفة وأقل إثارة للشعوب، لذلك تبادل الروس والأمريكان السيطرة الاستعمارية الخفية على القرار في كثير من دول العالم الثالث في تلك الحقبة، ومن بينها مصر الناصرية، من خلال الارتباط الاقتصادي والعسكري ودعم السلاح.

وفكرة القضاء على الإقطاع أيضا كانت محض دغدغة لمشاعر الفلاحين، ولم تكن الفكرة الأصوب للاقتصاد الوطني، لأن الملكيات الكبيرة هي التي تتيح تطوير عملية الزراعة وتحديثها وتثمين الإنتاج وتعزيز قدرة الدولة على التصدير، وهو ما تم العمل به في العالم كله، لكن الضباط الشبان كانوا يهدفون إلى إضعاف قوة رجال المال والأعمال حتى لا يكونوا منافسين لهم في القرار السياسي، ومن ناحية أخرى مغازلة مشاعر ملايين الفلاحين بأنهم تحولوا إلى ملاك، وكان المطلوب، ليس تحطيم الملكيات الكبيرة، بل توفير الضمانات القانونية والإدارية التي تحقق وصول أثر الثروة إلى الفلاحين وغير الفلاحين من خلال برامج حماية اجتماعية حديثة ونظام ضريبي يعود بالنفع في دعم الخدمات الصحية والتعليمية والمواصلات العامة وغيرها، وهذا ما كان صعبا على وعي ضباط صغار متحمسين ومتعجلين ومتشككين في رجال المال والأعمال والخبرات الاقتصادية الكبيرة في مصر.

عندما يوضع رسم بياني لتحولات الاقتصاد المصري منذ 52 فلن تجهد كثيرا لإدراك حجم التراجع بل الانهيار في الاقتصاد والتنمية والقدرة على التطوير والتحديث في المجتمع وعشوائية الإدارة وإهدار مقدرات البلاد، مع تراجع الحراك السياسي والثقافي والأدبي والإعلامي الغزير الذي صنع قوة مصر الناعمة في المرحلة الملكية، في الفكر والدين والثقافة والأدب والصحافة وغير ذلك، وولد مبدعين كبارا من حجم طه حسين والعقاد والرافعي ونجيب محفوظ والزيات ومصطفى عبد الرازق ومحمود شاكر وغيرهم، عاشت على ذكرهم مصر من بعدها وحتى الآن، ولم تشهد فترة الحكم العسكري لضباط يوليو أي نماذج في قامتهم أو تسد فراغهم، لأن حرص الضباط على تأميم الحياة العامة، بما فيها الثقافة والفكر والأدب والدين والصحافة وإخضاعها للتوجيه الصارم بما يخدم توجهاتهم وطموحاتهم كان من شأنه أن يقتل الإبداع ويجفف منابعه.

النكسة المروعة التي حدثت لمصر في 67 كانت النتيجة المنطقية للنكسة الأولى التي حدثت في 52، وحتى اليوم، ندفع ثمن النكسة الأولى والكبرى التي بدأت بتولي ثلاثة عشر ضابطا حكم مصر في يوليو 52، وحتى اليوم لا تعرف مصر كيف تخرج من أسر تلك المرحلة وآثارها ومعادلاتها وقوانينها الراسخة. 

المصريون المصرية

2
التعليقات (2)
ادم
الأربعاء، 25-07-2018 03:38 م
على ما يبدوا أن العسكر هم قدر المحروسة ما لم يغير أهلها ما بأنفسهم. وأنى أرى أن خطأ الإخوان "الوحيد" عندما حاولوا انتشال المحروسة من وحل العسكر هو اعتقادهم أنهم قد أعادوا بناء الانسان المصرى وبدا لهم أن وقت قطف الثمار قد حان فكان هذا خطأ جسيما حيث ثبت أن إعادة بناء الانسان المصرى لم تكتمل بعد وهكذا أعادوا المحروسة الى أحضان الأوباش كرة آخرى.
طارق غازي
الأربعاء، 25-07-2018 09:46 ص
مقال الاستاذ جمال سلطان أكثر من رائع و لكن لي تعقيب بسيط عليه: ما الذي قدمته ثورة 23 يوليو عام 1952 والتي من امتداداتها العهد الحالي ؟ الجواب : كانت نكبة فلسطين عام1948 بينما كانت نكبة مصر عام1952 . فى عهد الملك فاروق كانت نسبة البطالة 2 %فقط والجنية الذهب كان ب98 قرشا وكانت قيمة الدولار 25 قرشا. كانت القاهرة الأولى في مسابقة أجمل مدن العالم و كان الطليان واليونانيون يعملون فى مصر حلاقين وجرسونات. كانت سيارات الكاديلاك الأمريكية تستعمل ك "تاكسي" في القاهرة. ان مصر أقرضت بريطانيا فى عهد الملك فاروق ما يعادل 29مليار دولار في الوقت الحالي و بالطبع لم يطلب حكم العسكر استردادها و لن يطلب . أنا لست مؤيداً للملك فاروق أو للملكية في مصر ، لكن أمريكا ظلمت مصر ظلماً شديداً بفرض العسكر عليها من خلال السفير كافري و من خلال مايلز كوبلاند ثم السفارة إياها. مصر تستحق حكماً رشيداً أفضل مما رأيناه خلال 66 عاماً.