كتاب عربي 21

الضفة وغزّة.. نموذجان متقابلان في سياق استعماري

ساري عرابي
1300x600
1300x600

من نافلة القول إنّ تحوّل ما يُعرف اليوم بالضفة الغربية وقطاع غزّة إلى إقليمين متمايزين، إنما كان بفعل الاحتلال. قبل ذلك لم يكن هناك بنية قبلية تحمل هذه المضامين الاجتماعية والسياسية الموجودة الآن، فبفعل الاحتلال يتشكل القطاع في نسبة سكانه الأعلى من لاجئين فلسطينيين شرّدهم الاحتلال في العام 1948، أما "الضفة الغربية" فهو محض تعبير سياسي عمّا كان قد تبقّى من فلسطين بعد العام 1948 ويتبع المملكة الأردنية الهاشمية، أمّا عديد المدن والقرى التي تُشكّل ما يُعرف اليوم بالضفة الغربية، فكانت متناثرة داخل عموم فلسطين، ولا يجمعها رابط اجتماعي أو سياسي خاصّ، دون غيرها من بلدان فلسطين.. باختصار إنها نتيجة الحرب والهزيمة.


بالرغم من الظروف الخاصّة التي عاناها الفلسطينيون من بعد الانتداب البريطاني، ومن البنى الاستعمارية التي أخذت تتشكل بفعل هزيمة العام 1948، إلا أن الفلسطينيين، تمكنّوا من ابتداع هوية واحدة للتعبير عن شعب واحد، من جملة عناصر انتظمت بها هوية الفلسطينيين، منها الخريطة الانتدابية، واللجوء، وغرابة الوضع الفلسطيني بالنسبة للبلاد العربية الآخذة بالاستقلال، والتبلور في هويات ضمن ظرف مختلف.. وحدها الثورة والمقاومة التي صاغت من ذلك كلّه هوية واحدة للفلسطينيين.


ومع أن رؤية الاحتلال الإستراتيجية والإيديولوجية لقطاع غزّة دون تلك التي نظر بها إلى الضفة الغربية، فإنّ بدايات تبلور النهوض الوطني الفلسطيني جامعًا للشتات الفلسطيني الناشئ عن الانتداب ثم عن هزيمة العام 1948 قد بدأ من قطاع غزّة، هذه المنطقة التي طالما قال الاحتلال إنّه مستعد للتخلّي عنها "أولاً" هي التي بدأت في جمع الفلسطينيين على قضية الثورة والشعب الواحد.


مرّة أخرى، لم يكن ذلك ناجمًا عن بنية قبلية، وإنما عن الهزيمة ثم ما تلاها من تفاوت عربي في التعامل مع ما تبقى من فلسطين (الضفة الغربية وغزّة)، ففي حين صار فلسطينيو الضفة أردنيين لم يكن أمام سكان قطاع غزّة إلا أن يكونوا فلسطينيين، هذا التكوين الجديد في غزّة، وجد نفسه الصفَّ الأول في التصدي للعدوان الصهيوني في العام 1956 على مصر، من هنا بدأت الحكاية.


بعد كامب ديفيد المصرية، لم تعد الدولة المصرية ترى في غزّة عمقًا لها بهذا المعنى، وبهذا الاعتبار صارت غزّة مشكلة صغيرة في الإستراتيجية الصهيونية، طالما أن "إسرائيل" ضمنت مصر، وحيّدت سيناء، أمّا الضفة الغربية، فهي وعدا أنها جوهر المقولة الإيديولوجية الصهيونية، فإنّها العمق الإستراتيجي بالنسبة لـ "إسرائيل" من يسيطر عليها (الضفة) فقد سيطر فعليًّا على بقية فلسطين، ولم يغير هذه الإستراتيجية معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية، فالطبيعة الجيو إستراتيجية للضفة، لا تتأثر جوهريًّا بمعاهدة السلام، ولذلك فإنّ السياسات الإسرائيلية، تجاه الضفة، تحظى بقدر من الاتفاق الصهيوني، منذ العام 1967، بكلمة أخرى لا يمكن لـ "إسرائيل" التخلي عن الضفة الغربية في حالة من موازين القوى تميل إليها بشكل كاسح.


بالإضافة إلى أن "إسرائيل" فقيرة بالعمق الإستراتيجي، فإنّها تدرك أن وجودها مسألة مؤقتة، طالما أنّها طفيلية طارئة في قلب هذا المحيط الرافض لها، وقد طالت إلى هذه الساعة بسبب الظروف المختلّة في هذا المحيط، وبسبب ميزان القوى العالمي، والحال هذه فإنّ استمرار اختلال الظروف المحيطة ضرورة إسرائيليّة، ومن ثم تكون تصفية الحالة الاستعمارية المدعوة "إسرائيل" ضرورة عربية، بقدر ما اهتراء الحالة العربية ضرورة إسرائيلية.


بعد الثورات العربية، لم يعد ثمة شكّ لدى "إسرائيل"، أن الأمر مسألة وقت فقط، وأن اتفاقيات السلام مع المحيط العربي لا توفّر ضمانات للخلود، ليس لأن تلك الثورات قدّمت خطابًا مناوئًا لـ "إسرائيل" كما ينبغي، بل هذه واحدة من أخطائها، فقد تجنبت ذلك ولم تجن من القوى الدولية في النهاية سوى الحنظل، وإنّما لأنّ حالة الركود قد انتهت، وأن سيولة جارية لا يمكن لأحد أن يسيطر على مجراها ومآلاتها، والأمر كذلك؛ فإنّ "إسرائيل" تزداد تمسكًا بالضفة الغربية!


مع اتفاقية أوسلو، وتأسيس السلطة الفلسطينية، داخل الضفة الغربية وقطاع غزّة، بدأت عملية تفجير الهوية الواحدة للفلسطينيين، صارت قضية العودة مشكوكًا فيها، وبدأ تشكيل حالة سلطوية تُعنى بفلسطينيي الضفة وغزّة، وخرج أصل القضية (اللجوء والأرض المحتلة عام 48) من ذهن المتنفذ الفلسطيني، بدا الأمر واقعيّا ساعتها، ولم يُؤخذ في الحسبان أبدًا استحالة تحول السلطة لأفق سياسي أرقى، وإنما وبالإضافة لعملية تفتيت الهوية الفلسطينية، بدأ واقع السلطة والتنافس في إطارها، يُفتت الفلسطينيين في الضفة وغزّة.


وإذا كانت المسؤولية الكبرى هنا، يتحمّل وزرها قيادة منظمة التحرير وحركة فتح، فإنّ دخول حركة المقاومة الإسلامية "حماس" الانتخابات التشريعية لم يلحظ الدور الوظيفي للسلطة، وبالتالي استحالة الجمع بين المقاومة والسلطة، وأن قدرة حماس على الحفاظ على مكتسبها الانتخابي في الضفة مستحيلة، أولاً ومن الناحية النظرية بسبب الرؤية الإسرائيلية الإستراتيجية والإيديولوجية للضفة، وثانيّا بسبب الواقع المتمثل في وجود احتلال فيزيائي مباشر واستحالة دفعه هو والقوى المحلية المخاصمة بمحض قوّة حماس الذاتية في الضفة.


في النتيجة أفضى ذلك إلى الانقسام، المؤسس على تفاوت الرؤية الإسرائيلية للإقليمين؛ الضفة وغزة، ولنتائج انتفاضة الأقصى المتباينة في كلا المكانين، ولتفاوت قوّة حماس التنظيمية التي تعاظمت في غزّة بفضل انتفاضة الأقصى بينما اهترأت في الضفة الغربية بفضل الانتفاضة نفسها، ثم تاليا أكثر من بعد الانقسام.


اشتغل الاحتلال، وبالتالي حلفاؤه، على نمطين استعماريين من الاحتواء والمعالجة ففي حين مُنحت السلطة الفلسطينية دفعة اقتصادية بهدف تحييد الجماهير الفلسطينية عن دورها الطبيعي في مواجهة الاحتلال بإغراقها بنمط استهلاكي وربطها عضويّا بوجود السلطة والمنظومة الاقتصادية المتحالفة معها، فإنّه في المقابل ظلّ يضاعف من الحصار حيث ما يزال السلاح موجودا، والمقاومة موجودة فكرة وممارسة، أي في غزّة، وبهذا وُجد ظرفان متباينان، فبينما تُهدّد الضفة بمثال غزّة، فإنّ عقوبة غزّة تتضاعف حينما يشعر الفلسطيني في غزّة أنه يعاني ظروف الحصار وحده، ويدفع فاتورة المقاومة وحده، وبهذا يجعل الاحتلال من الفلسطينيين عقوبة ومثلا لبعضهم!


المفارقة التاريخية، أن غزّة (أي المكان الذي يُفترض أنه الأقل أهمية في الإستراتيجية الصهيونية)، الآن وحدها التي "تشاغب" العدوّ، وتبدو مزعجة للخطة الدولية التي تروم تصفية القضية الفلسطينية، بهذا يمكننا تفسير الكثير من الحوارات التي تفتح مع حماس الآن، وكذلك المبادرات التي تُقترح عليها، وبذلك صرنا وكأننا مجموعة شعوب ومجموعة قضايا، بعد أن كنّا شعبا واحدا وقضية واحدة.


الحلّ الذي هو بداهة القول، أن تعود قيادة السلطة وفتح عن مسارها بعد أن وصل ساعة الحقيقة، وبعد أن أوصلنا إلى ما نحن فيه، وأن تصاغ الوحدة الوطنية على أساس مغاير لهذا المسار، وعلى أساس دعم قطاع غزّة وتعزيز صموده، وبهذا فقط نُفشل ما يُسمى "صفقة القرن"، ولأن ذلك لا يبدو متاحا حين قراءة سلوك السلطة وفتح، فإن حماس وغزّة ما يزالان يحملان عبئا هائلا.


0
التعليقات (0)