قضايا وآراء

الرئيس السبسي.. بين هم الإصلاح ومكر السياسة

نور الدين العويديدي
1300x600
1300x600
صيف سياسي واجتماعي ساخن في تونس، رغم كمية الأمطار الكبيرة التي نزلت مؤخرا، رحمة من الله بهذا البلد المهدد بالعطش، وأهله غافلون غارقون في الصراعات السياسية والاجتماعية التي تفجرت من دون ضوابط ولا حدود؛ مع نسمات الحرية التي أتاحتها الثورة التونسية، فإذا بهم، وهم لها عطشى، يغرقون في لججها، لا يكادون يحسنون الاستفادة منها إلا قليلا.

حالة استقطاب حادة تعيشها تونس هذا الصيف؛ تذكر بما عاشته البلاد صيف العام 2013، قبل أن تتنازل حركة النهضة وتخرج طوعا من الحكم الذي وصلته بانتخابات نزيهة، حفاظا منها على أمن البلد واستقراره.. حالة استقطاب فجرها تقرير "لجنة الحريات الفردية والمساواة"، التي تترأسها اليسارية بشرى بالحاج حميدة، وتتكون من تسعة أعضاء يتحدث الكثير من التونسيين عنهم وكأنهم التسعة رهط المفسدون المذكورون في القرآن الكريم في قصة ناقة النبي صالح عليه السلام.

تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، الذي جاء في 235 صفحة من القطع المتوسط، وأنجز بتكليف من رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي، بحجة تعميق الحريات وضمان المساواة بين التونسيين والتونسيات، أثار لغطا هائلا في المجتمع، وقسم التونسيين إلى معسكرين متضادين: معسكر المحافظين على قوانين الأسرة وعلى القيم العائلية التقليدية الموروثة، وعلى الالتزام بحدود الدين وضوابطه، والتي تشكل روح الهوية التونسية، مقابل معسكر الحداثيين "المتأوربين"، الذين يريدون إحداث تغييرات عميقة في القوانين المنظمة للأحوال الشخصية، بما يجعلها متطابقة مع القوانين الغربية واتفاقية سيداو.

وعلى الرغم من أن استطلاعات الرأي ترجح كفة المحافظين بشكل واضح وجلي، إذ يقول أكثر من 66 في المائة من التونسيين برفضهم للتقرير وللتغيير في قوانين الأحوال الشخصية، ويرونها مخالفة للدين ولهوية المجتمع، حسب استطلاع رأي أعده معهد دراسات أمريكي، إلا أن التونسيين ما زالوا ينتظرون بخوف وترقب ما سيعلن عنه الرئيس الباجي قايد السبسي في الثالث عشر من الشهر الجاري، في ذكرى إقرار مجلة الأحوال الشخصية.

تقليد بورقيبةّ!

لم تخرج مظاهرات شعبية عارمة تطالب بتغيير قوانين الأحوال الشخصية، حين قرر رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي يوم 13 آب/ أغسطس 2017 تشكيل لجنة للنظر في تعديلات يمكن إدخالها على قوانين الأحوال الشخصية التونسية..

لقد استجاب رئيس الجمهورية لمطالب نخبوية ضيقة معزولة جدا عن نبض الشارع وحاجاته. وشكل اللجنة من لون سياسي وثقافي واحد، هو التيار الحداثي التغريبي، دون إشراك علماء الدين ورجال القانون من التيار المحافظ، ولا تمت استشارتهم إلا بشكل صوري، وهو ما انعكس على مخرجات اللجنة التي صدمت التونسيين، حين دعت إلى المساواة التامة في الميراث بين الذكور والإناث، رغم وجود نصوص قرآنية واضحة تمنع ذلك، وحين دعت إلى إباحة الشذوذ الجنسي، باعتباره من الحرية الشخصية، وإباحة الزنى بالتراضي، مقابل تجريم تعدد الزوجات، ولو بالتراضي، وكذلك تجريم الختان، باعتباره لونا من ألوان تعذيب الأطفال.

العارفون بالرئيس الباجي قايد السبسي يقولون إن الرجل متبلس بشخصية الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة.. يريد استنساخ خطواته، ومهموم بصورته في التاريخ كمصلح اجتماعي عصري.. يريد إنجاز الجيل الثاني من حقوق النساء، استكمالا لما بدأه بورقيبة من "تحرير" المرأة، بمساواة المرأة والرجل في الميراث، وهو الأمر الذي قد يأخذه الرئيس من تقرير لجنة "الحريات الفردية والمساواة" ويعلن عن تبنيه يوم 13 آب/ أغسطس الجاري.

لعبة سياسية خطرة!

آخرون يرون في ما قام به الرئيس قايد السبسي مجرد لعبة سياسية خطيرة يهدف من ورائها إلى ربح الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة العام 2019، حتى ولو كان ذلك على حساب وحدة المجتمع وانسجامه الفكري والقانوني وسلامته وتماسكه.

فالرئيس الذي جاء وحزبه نداء تونس للسلطة عبر ما سمي بـ"الانتخاب المفيد" العام 2014، يعرف أن توحيد القوى الحداثية خلفه أو وراء من يخلفه في قيادة الحزب (وقد يكون ابنه حافظ) في مواجهة التيار الإسلامي ممثلا في حركة النهضة، هو ما بقي له من خيارات ولحزبه الذي شهد صراعات حادة وانشقاقات كبيرة، حتى يتمكن من الحفاظ على تفوقه وفوزه الانتخابي العام القادم.

لكن التلاعب بالمقدسات قد تكون له عواقب وخيمة. فالرفض الشعبي العارم لتسرب تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة للترسانة القانونية التونسية، حتى لا يفسدها، قد تكون له6 عواقب انتخابية حاسمة، لن تضر في الغالب إلا من يتحدى الرأي العام ويريد أن يفرض عليه ما لا يريد.. لكن العلمانية التونسية ولدت في حضن الدولة ولا تستطيع أن تعيش إلا بمدد وغذاء منها.. وهو أمر كان متاحا أيام الاستبداد.. أما أيام الديمقراطية فالخطر يصبح شديدا واللعبة قد تتحول إلى مقامرة.

"أبو الديمقراطية" أم مجرد تابع لبورقيبة؟

ناصحون، ومنهم كاتب هذه السطور، ينصحون الرئيس قايد السبسي أن لا يكون مجرد متبع لخطوات الراحل بورقيبة، في زمن غير الزمن، فذلك يجعله مجرد ظل له، ونسخة منه. والنسخة مهما كانت جيدة لن تكون بجودة الأصل، وهو بورقيبة. ويرون أن بوسع رئيس الجمهورية أن يسجل اسمه في تاريخ تونس؛ لا من باب اتباع بورقيبة واستكمال مشروعه، فذلك يضعه دائما مجرد هامش على دفتر الرئيس الأسبق، وإنما بوسعه أن يدخل تاريخ تونس من أبوابه الكبيرة باعتباره الرجل الذي نجح في ما أخفق فيه بورقيبة، وهو توطين الديمقراطية في تونس.

فقد كان بورقيبة حاكما فردا دكتاتورا مستبدا، في حين كان قايد السبسي محسوبا على التيار الديمقراطي منذ سبعينيات القرن العشرين، إذ عارض بورقيبة لفترة والتحق بمعارضته الليبرالية؛ التي طالبت مبكرا بالديمقراطية. وهو اليوم على رأس دولة تحاول نحت مستقبل ديمقراطي واعد..

ولا شك أن ثمة نقاط كثيرة تصب في صالح الرئيس الباجي في هذا الميدان، فقد رفض الرجل إغراءات مالية كبيرة عام 2015، من قبل دولة الإمارات العربية المتحدة، للانقلاب على الديمقراطية، والزج بالإسلاميين في السجون، كما فعل النظام المصري.. لكن قايد السبسي رفض ذل.. يبقى عليه أن يستكمل المسار، وأن يتجنب ما يقسم التونسيين ويشعل الصراعات بينهم، بما يهدد المسار الديمقراطي جملة.

صمت النهضة

حركة النهضة هي الطرف المقصود من المناورات السياسية المكشوفة. ورغم ذلك، فقد قررت النهضة لزوم الصمت.. قالت إن التقرير قابل للنقاش، وإنها لن تدلي بدلوها في شأنه إلا بعد دراسته واجتماع مؤسسات الحزب لتقييمه.. ولم تدل حتى الآن بذلك الدلو المنتظر، رغم أن الأغلبية الساحقة من النهضويين يجدون أنفسهم ضد التقرير، ويقف الكثيرون منهم في وجهه. ويقول العديد من القيادات النهضوية إن المعركة ليست معركة سياسية حتى تتولاها الأحزاب، وإنما هي معركة ثقافية اجتماعية؛ الشعب والمجتمع المدني أولى بخوضها من الأحزاب.

موقف النهضة الذي رفض تسييس النقاش العام أطلق حركة اجتماعية واسعة لرفض القانون، من دون الخوف من الظلال السياسية التي يمكن أن تفرق المحافظين المعارضين للتقرير إلى شيع وأحزاب.. ولذلك فقد انطلقت مظاهرات عارمة في أكثر من مدينة في تونس، كانت أكبرها في العاصمة الاقتصادية صفاقس (نحو 250 كلم جنوب العاصمة تونس). وتكاد صفحات التواصل الاجتماعي لا تنشغل إلا بهذا الموضوع، ويُنتظر أن تقام السبت 11 آب/ أغسطس الجاري أكبر مظاهرة رافضة للتقرير، في حين يتوقع أن يشهد مساء الثالث عشر من ذات الشهر مظاهرة مناقضة تناصر التقرير واللجنة.

شارع ضد شارع

ما يخشاه الكثير من التونسيين هو الصدام بين المتظاهرين.. فالنزول للشارع، رغم أنه حق دستوري للتعبير عن رفض أي مشروع أو تأييده، إلا أن الخوف كل الخوف أن يتصادم المتظاهرون وتدخل البلاد في دوامة العنف.

ويتذكر الجميع أن نزول المصريين عام 2013 للشارع ضد بعضهم البعض اتخذته القوات العسكرية المصرية مبررا للانقلاب على الشرعية المنتخبة. ومنذ ذلك اليوم، دخلت مصر في وضع سياسي واجتماعي خطير. وهو أمر يخشاه التونسيون ولا يتمنونه لبلادهم، فلا يوجد في التجربة المصرية سوى الفشل والفقر والأوجاع، وهو أمر لا يحب التونسيون تكراره في بلادهم، حتى لا يطلع من الظلام ذات فجر أغبش من يتلو البيان رقم واحد.
التعليقات (0)