كتاب عربي 21

العنصرية المتأصلة فينا (3)

طارق أوشن
1300x600
1300x600

أجراس العودة إن قرعت أو لم تقرع، فلم العجلة
فالعرب بأخطر مرحلة  وجميع حروفهم علة
أغرتهم كثرتهم، لكن وبرغم جموعهم قلة
وبوادي النمل إذا عبروا ستموت من الضحك نملة...
كلمات مثل هذه كانت كافية ليتعرض المطرب التونسي لطفي بوشناق لهجمة شرسة ممن يعتبرون أنفسهم حماة العرق العربي الصافي الجدد في حملة لم تجد غير "شتم" الرجل بأصله البربري، غير المؤكد، باعتباره من سكان شمال أفريقيا، مخلفات الاستعمار الحاقدين على مهد العروبة والإسلام.


صحيح أن الهجوم ومن يحركه من ذباب إلكتروني، تعود على نهش لحم ذوي القربى قبل الأغراب، يستهدف في الأصل كل صوت يعلن جهارا معارضته لما صار يعرف باسم "صفقة القرن"، وما هي إلا مجرد صداق عقد النكاح الباطل الذي كان يجمع أمريكا بحكام العرب المستبدين فانضافت إليه ربيبتها إسرائيل علنا بعد أن كانت الفعل المحرم يمارس في السر منذ عقود.

 

لكن الجانب السياسي من الموضوع لا يخفي عنصرية مقيتة تسكن النفوس ولا تفتأ في الظهور بين حين وآخر بما تمليه الظروف وتسمح به أنظمة القمع والاستبداد. لم يلتف من عايروا بوشناق بأصله "الأمازيغي" لقوله في الأغنية ذاتها وهو يصدح بانتمائه العربي ويشدو قائلا:
أنا العربي، 
أنا من سيشهد في نهاية الحياة على الحياة.
أنا العربي،
عزيز الروح لي فجر من الأمجاد
وإذا ما البحر طوقني بموجه،
صنعت من موجه طوق نجاة.


يحلو للعرب والمسلمين الدفع بمظلومية العنصرية والتمييز التي يمارسها الغرب الكافر ضدهم، فتراهم يتباكون على حقوق ضائعة وكرامة ممتهنة وظلم مستمر في الزمان والمكان. فالعنصرية والتمييز في الوطن "العربي" تهمة لا تصلح إلا لكي توجه للآخر الغربي على الخصوص.

 

ويبدو أن إحساس الدونية تجاه ذلك الغرب هو ما يولد في الغالب تلك المظلومية التي تخفي عنا، في هذه البقعة الجغرافية المسماة تجاوزا بالعالم "العربي"، أن ننتبه لما تعيشه مختلف الأطياف الموكنة لنسيجه المجتمعي من أشكال مختلفة من التمييز تتناقله الأجيال جيلا بعد جيل.


في العالم "الغربي" دول مؤسسات وقوانين نافذة تطبقها عدالة لا تميز، في الغالب الأعم، بين الفرقاء. أما في العالم "العربي" حيث لا مؤسسات ولا قوانين ولا قضاء "شامخ" يحكم بالعدل والمساواة، فالممارسات العنصرية تتحول مع الزمن إلى حقد وضغينة واستغلال ثم استبداد.

 

ففي دول اعتادت على القهر السياسي والاجتماعي والكبت الأخلاقي وانحسار الحريات، يتحول الفعل العنصري إلى أداة لتصريف الشعور بالمهانة والدونية ضد من يُنظر إليه باعتباره دخيلا أقل شأنا عنصرا داخليا كان أو أجنبيا حيث يُستحضر التاريخ وصراعاته، والجغرافيا وتداخلاتها ويختلط الحاضر الشائك بالماضي الملتبس ليصير العيش المشترك ضربا من الخيال.


داخل المطبخ بالبيت الذي يسكنانه بمخيم اللاجئين بلبنان، تحاول منال إقناع زوجها ياسر بالاعتذار من مواطن لبناني مسيحي ليتنازل عن الدعوى المرفوعة ضده بالمحاكم على إثر خلاف تطور إلى شجار، على إثر طلب من مشغله طلال. والمشهد من فيلم (القضية 23 – 2017) للمخرج زياد الدويري.
منال: الزلمة عم  بيخاطر كرمالك.


ياسر: شو بدك يعني اعمل له؟ أنا مش عبد لحدا وما حدا له عندي ايشي.

منال: هاي اسمها أنانية. ليش مفكر أنه العالم كله بيتآمر عليك؟
ياسر: احنا مستهدفين..
منال: مين احنا؟  
ياسر: احنا.. أنا وانت.. احنا.. كلنا عبيد.. عبيد للعرب.


قد يكون ياسر مغاليا في كلامه عن عبودية الفلسطيني في دول العرب التي تفرق في بعضها لاجئا بشكل ظهر كتهديد للتركيبة البشرية لدول اللجوء، بالنظر لما لمصطلح التوطين من رنة في الأذن الإقليمية والدولية وارتباطه الوثيق بالسعي الحثيث لتصفية القضية على مذبح المال مقابلا للأرض ولتكلفة الإيواء.

 

لكن ما عانته مكونات أساسية من داخل الأوطان باعتبارها "أقليات" مختلفة عن الصوت والشكل واللون والدين الأوحدين الذين ارتضتهم الأنظمة "الوطنية الوريثة للدولة القطرية الحديثة المستقلة عن التبعية والاحتلال الأجنبيين"، لا تتركان مجالا للشك في أن العنصرية، المتأثرة بالاستبداد، ممارسة طبيعية وغالبة من المحيط إلى الخليج.

 

فالعبودية لا تزال ممارسة قائمة بكثير من الدول وإن بأشكال "عصرية" استبدلت السلاسل بموافقات الكفلاء في دول الوفرة، بينما ظلت الممارسة على طبيعتها في دول العوز كما حال الحراطين بموريتانيا والأرقاء باليمن والمستعبدين في كثير من البلدان.

الأمازيغ والأقباط والأكراد "شعوب" وجدت نفسها في أتون استماتة النظام الرسمي العربي، الذي اتخذ في غالبيته من "العروبية" منهاجا، في بسط سيطرته المطلقة على مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية، فصار أبناؤها على الهامش وألسنتها مجرد تراث فلكلوري للاستغلال الرسمي ودياناتها طقوسا تمارس في السرية والكتمان.

 

في هذه البلدان لا رسمية إلا للغة العربية ولا سمو إلا للدين الإسلامي، لغة ودين الدولة الرسميين بحكم دساتير أنظمة الاستبداد. الإصرار على تسمية "العالم العربي" و"المغرب العربي" تجل واضح على عنصرية تقوم على تغليب فئة على حساب فئات مطلوب "صهرها" في قالب جاهز يسِم المطالب بالتنوع على أنها حركات تسعى إلى الانفصال أو العمالة للخارج بدل تثمينها وجعلها السبيل لوحدة تعترف بالجميع.

 

ولأن الاستبداد عدوى لها سحرها وهي تنتقل من الدولة الرسمية إلى "مواطنيها"، فقد تمأسست في المجتمعات عنصرية مبنية على نظرة تفاضلية بنت طبقيات تبدأ بلون البشرة لتنتهي باللسانيات مرورا بالمركز الجغرافي والوضع الاقتصادي.

 

فالعبودية لا تزال ممارسة قائمة بكثير من الدول وإن بأشكال "عصرية" استبدلت السلاسل بموافقات الكفلاء في دول الوفرة، بينما ظلت الممارسة على طبيعتها في دول العوز كما حال الحراطين بموريتانيا والأرقاء باليمن والمستعبدين في كثير من البلدان.

 

وكان لزاما منا انتظار تقارير شبكات التلفزيون الدولية لنظهر تفاجأنا من عمليات بيع وشراء الأفارقة بالقطر الليبي.


في كل قطر "عربي" لا مساواة إلا بين الأغنياء. أما الفقراء فبقاؤهم مرهون بتقبل عنصرية المحلي واستغلاله الذي لا ينتهي.

 

ولأن دول المنطقة لا تتوقف عن إنتاج المآسي والحروب، وزرع الفتن والضغائن وتغذية نزعات الانغلاق ورهاب الأجنبي-العربي على الخصوص، يتمدد الفكر العنصري وتتعدد أشكاله بتنوع ضحاياه.


في فيلم (محبس - 2016) للمخرجة صوفي بطرس، محاولة مصاهرة بين عائلة سورية ولبنانية على خلفية مآسي سنوات من الحرب الأهلية والوجود السوري بلبنان، الذي انتقل في الحاضر من وجود عسكري مسيطر على الأرض إلى أعداد هائلة من اللاجئين.


غادة: ليش خبيت عليا أن أمك ما بده ياني؟
سامر: حبيبتي ما في شي يتخبا.. بعدين مستحيل امي تكون آخذة الخاتم قصدا.
غادة: وكيف وصل على جزدانها؟
سامر: شو بيعرفني.. وبعدين مو هذا المهم هلأ..
غادة: مهم ونص.. أمك مش قبلانه فيا بالوقت ايلي أمي قبلت فيك مع انك سوري.
الوالد: غادة!
تعود نازك، والدة سامر إلى الغرفة.
سامر: مع اني سوري؟
غادة: (تحاول الاعتذار) مش هيك؟
نازك: (موجهة كلامها لتيريز، والدة غادة) هلأ انت يا معنطزة مش عاجبك السوري؟ ديري بالك على عيلتك الأول وشوفي الريس تبعك (تعني زوجها)  شو بيعمل مع يده اليمين (السكرتيرة).


تيريز: (على وقع المفاجأة) اشكروا ربكم أني استقبلتكم طول النهار ببيتي.. قتلتولي خيي انتو..
تيريز مؤمنة أن أخاها قتل بقذيفة سورية.

 

الأكيد أن الماضي حاضر بقوة في تشكيل علاقات نسيجنا المجتمعي الداخلي وفي تصوراتنا الذهنية عن الآخر الأجنبي قريبا كان أم بعيدا. والدة عهد التميمي اعتبرت قبل أيام أن التضامن الذي لقيته قضية ابنتها عنصريا بالأساس، باعتبار أن ملامحها وشعرها قد يكونا وراء التضامن العالمي مع قصتها دونا عن أطفال فلسطين. التضامن العالمي يشمل بالمناسبة تضامن الفلسطينيين والعرب أيضا. فمن نحن إذن حتى نرمي الآخرين بالعنصرية والتمييز؟


0
التعليقات (0)