قضايا وآراء

في الحاجة إلى تعزيز الخطاب الحقوقي الفلسطيني

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
ثمة فرضيات تحكم تفكير الحالة الشعبية الفلسطينية، مثل أن حقوقنا معروفة لا تحتاج إلى تبيان، وأن العالم يعرف الحقيقة لكنه يتآمر علينا، وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وأن ألفي قذيفة من كلام لا تساوي قذيفةً من حديد.. هذه الفرضيات تخلق زهداً في صياغة خطاب إعلامي منطقي يستند إلى الحقائق، ويسلط الأضواء على جرائم الاحتلال، ويكرس صورته بأنه كيان نشاز يمارس الاحتلال والاضطهاد العنصري، ويقترف جرائم مروعةً بحق الإنسانية.

إن مروراً سريعاً على نوعية الخطاب الإعلامي الفلسطيني السائد؛ يكشف أنه خطاب يميل إلى التفريغ العاطفي أكثر من الإقناع المنطقي. نحن نتحدث بصوت عال، ونجيد خطابات المهرجانات، ونتوعد الاحتلال بأن نرد له الصاع صاعين وأن نسحقه، وأننا نملك جيشاً في مقابل جيشه، لكننا لا نشعر بإلحاح الحاجة إلى التأثير في الوعي العالمي عبر إبداع أنشطة إعلامية وفنية ونضالية؛ تكرس صورة الحق الفلسطيني وتحرم الاحتلال من صورة الدولة النظامية المستقرة التي تواجه جماعات مسلحةً تهدد أمنها، وتصوره على حقيقته بأنه دولة احتلالية عنصرية مقيتة؛ تمارس التهجير والاستيطان والتطهير العرقي ضد السكان الأصليين.
الخطاب الإعلامي الفلسطيني السائد؛ يكشف أنه خطاب يميل إلى التفريغ العاطفي أكثر من الإقناع المنطقي

في الأشهر الخمسة الأخيرة لنا عبرة، فقد بدا ارتباك الاحتلال واضحاً في تغطيته الإعلامية قبل بدء مسيرة العودة الكبرى، ولهذا الارتباك أسباب، لعل من أهمها أن فكرة مسيرة العودة تقفز عن كل التفاصيل والتشعبات، وترجع النقاش إلى أصل المشكلة.. إلى عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم. وقد بلغ استشعار الاحتلال خطورة القضية التي تطرحها مسيرة العودة أن دفع شخصيةً بوزن آفي ديختر، وزير الأمن الداخلي السابق، للخروج بخطاب باللغة العربية يلوم فيه الشعب الفلسطيني على عدم القبول بقرار التقسيم عام 1947، ويبرر النكبة بأنها كانت النتيجة الطبيعية لمعاندة الفلسطينيين لقرار الأمم المتحدة. إن تحويل النقاش إلى جذور المشكلة في ذاته هو مكسب وطني فلسطيني، ومأزق حقيقي لمشروع الاحتلال الذي يواجه معضلة الشرعية.
تحويل النقاش إلى جذور المشكلة في ذاته هو مكسب وطني فلسطيني، ومأزق حقيقي لمشروع الاحتلال الذي يواجه معضلة الشرعية

تجد دولة الاحتلال راحتها في مربع المواجهة الأمنية؛ لأن من السهل عليها أن تنتصر في هذا المربع عبر تسويق نفسها بأنها الدولة المستقرة المزدهرة التي تدافع عن أمن مواطنيها، كما تفعل كل دول العالم! لكنها لن تستطيع أن تقول إنها تفعل مثل كل دول العالم حين تواجه قضية عودة اللاجئين؛ لأن هذه القضية رابحة حقوقياً بشكل كامل، وهي تستند إلى مواثيق وقرارات دولية تضعف موقف من يواجهها. إن مجرد وضع هذه القضية على الطاولة وإثارتها إعلامياً مربك لدولة الاحتلال؛ لأنه يهز ثقة مواطنيه الوجودية، ويشعرهم بأن الاستقرار في هذه الأرض موضع شك وتساؤل، ويغذي فيهم الخوف من المجهول.

لقد مثلت بداية مسيرة العودة فرصةً لإعادة الحيوية إلى المشروع الوطني الفلسطيني؛ عبر تغيير صورة الصراع من كونه "توتراً أمنياً بين طرفين" إلى كونه نضالاً حقوقياً مشروعاً يستند إلى القرارات الدولية، ويطالب أهله بحقوقهم الطبيعية في الحياة والحرية والعودة إلى بلداتهم التي هجروا منها قسراً.
تجد دولة الاحتلال راحتها في مربع المواجهة الأمنية؛ لأن من السهل عليها أن تنتصر في هذا المربع عبر تسويق نفسها بأنها الدولة المستقرة المزدهرة التي تدافع عن أمن مواطنيها

وصورة النضال الحقوقي المشروع لا يملك أحد في العالم إلا احترامها، لذلك فإن العديد من المواقف الدولية في بداية مسيرة العودة كانت تصب في اتجاه احترام حق المتظاهرين السلميين في التعبير عن آرائهم، وقد تلقينا في الجهة الداعية إلى مسيرة العودة قبل بداية مسيرة العودة بثلاثة أيام رسالةً من مدير الأونروا في قطاع غزة، ماتياس شمالي، قال فيها: "إن أونروا تدعم حق الفلسطينيين بالتجمع السلمي والاحتجاج اللا عنيف، وإن مسيرة العودة يمكن أن تتحول إلى مبادرة قوية". والشاهد في رسالته وغيرها من المواقف الدولية التي أدانت ارتكاب جيش الاحتلال المذابح بحق المتظاهرين السلميين أن النضال الحقوقي لا يكسب تأييد الحلفاء السياسيين وحسب، بل إنه يمتلك القدرة أيضاً على تجنيد دعم الجهات الدولية المهنية؛ كونه نضالاً خالصاً من الشبهات و الاختلاط.   

لكن رواية دولة الاحتلال تتغذى في حقل التوتر الأمني، وليس في حقل النضال الحقوقي الواضح، لذلك فقد كرست الآلة الدعائية الاحتلالية جهودها منذ اللحظة الأولى لتشويه فكرة مسيرة العودة. وكانت أولى ملامح هذا التشويه تجاهل كلمة العودة، لما تثيره من إزعاج لمشروع الاحتلال، وتسميتها بـ"مسيرة الفوضى"، ثم نزع الطابع الشعبي عنها وتصويرها بأنها حراك يقوده فصيل سياسي واحد، ثم تجاهل المطالب المشروعة لهذا الحراك السلمي والتركيز على جانب التوتر الأمني، مثل قص السلك والطائرات الورقية والبالونات الحارقة، والتهويل من خسائر الاحتلال وحرائق مزارعه.
أحدث الاحتلال إزاحةً في الصورة الإعلامية من القضية الحقوقية الرابحة إلى صورة التوتر الأمني

لقد أحدث الاحتلال إزاحةً في الصورة الإعلامية من القضية الحقوقية الرابحة إلى صورة التوتر الأمني، فبدل أن يتصدر عناوين الأخبار أن اللاجئين الفلسطينيين يتظاهرون مطالبين بحق العودة أو بحقهم في الحياة الطبيعية، تصدر العناوين أن ثمة توتراً على الحدود بين الجانبين، وعلا دخان الكاوشوك وأزيز الرصاص الإسرائيلي الحي على المنطق الهادئ القادر على محاصرة رواية الاحتلال وأن هؤلاء المتظاهرين أصحاب قضية عادلة.

وقد ساهم زهد الفلسطينيين في المعركة الحقوقية في نجاح الآلة الدعائية الاحتلالية. ومع مرور الأيام، تراجعت أدبيات العودة والأعمال الفنية الإبداعية المرتبطة بها إلى التركيز على إطلاق البلالين الحارقة. وقد لفت نظري أكثر من شخص أجنبي دخل غزة بين متضامن وصحفي إلى هذه المشكلة؛ بالقول إنهم يرون مواجهةً على السياج الفاصل، لكنهم لا يرون عنواناً مرئياً للقضية التي يتظاهر الفلسطينيون من أجلها.
تراجعت أدبيات العودة والأعمال الفنية الإبداعية المرتبطة بها إلى التركيز على إطلاق البلالين الحارقة

إن دولة الاحتلال هي دولة قوية عسكرياً وسياسياً، لكن هذه الحقيقة لا تقلل من حاجتها إلى غطاء شرعي لأفعالها. فهي مرتبطة بشبكة من العلاقات الخارجية التي تدفعها إلى الحرص على تصدير صورة إعلامية إيجابية لها. وصورة العدوان الفج لا تحتمل الدول تكلفته الأخلاقية والاقتصادية والسياسية، كأن تكون الصورة في الإعلام الدولي مثلاً أن شعباً كان يعيش في أمن وسلام ثم داهمته دولة أخرى فجأةً دون مقدمات وأعملت في المدنيين قتلاً وتشريداً. إن هذه الصورة ناصعة الوضوح ستفرض حصاراً على الدولة المعتدية، ولن تجرؤ الحكومات على دعمها، لذلك تعمل الدول المعتدية على خلط عدوانها بروايات مضللة مثل الدفاع عن النفس وتأمين مواطنيها ومواجهة الإرهاب ونحو ذلك. ومن هنا، فإن قيمة الخطاب الحقوقي الواضح أنه يضعف قدرة دولة الاحتلال على إيجاد مناخ تبرر به جرائمها، وتفرض عليها حصاراً أخلاقياً عبر تكريس صورتها العدوانية، وهو ما سيقود بالتراكم إلى الإضرار بمصالحها، ومقاطعتها شعبياً وحكومياً، وحرمانها من صورة الدولة الطبيعية المستقرة.

إن العالم ليس كله متآمراً علينا، وغالباً فإن ما يشكل سلوك الشعوب تجاه قضيتنا مقدار وعيهم بالقضية، وأغلب مواطني العالم الذين لا يجدون مشكلةً في إقامة علاقات مع إسرائيل، كونها جزءاً من المنظومة الدولية، هم أنفسهم الذين لن يجدوا مشكلةً في الانصراف عنها حين تتبين لهم حقائق أكثر وضوحاً عن الجرائم التي تقترفها هذه الدولة ضد المدنيين المسالمين، وعن الانتهاكات التي تقترفها ضد القوانين والأعراف الدولية.

إن معركتنا في جزء كبير منها هي معركة على صناعة الوعي، وبقدر ما نبذل من جهد في هذا الاتجاه بقدر ما سنحقق المنفعة لقضيتنا وسننتصر لحقوقنا.
التعليقات (0)