قضايا وآراء

تعرَّف على التصوف

عبد الرحمن أبو ذكري
1300x600
1300x600
ليس التصوف محض تزكية رهبانية تنسحب بها النفس من الوجود وتنفصِل عنه. صحيح أن هناك أمثلة عديدة لزُهاد ونُسَّاك من هذا النوع في تاريخ الإسلام العريض، لكنها ليست الأصل الذي ارتضاه الله لكل عباده، بل هي رهبانية فرديَّة افترضها بعض الصالحين على أنفسهم، أو جذبة علويَّة لم يكن لهم معها حيلة؛ لكنها ليست مناط التكليف لعامة الناس، ولا حتى لجمهرة السالكين إليه سُبحانه من أمة البلاغ.

إذ لو كان الأصل هو الرهبنة، والانقطاع عن العالم؛ لكان الأنبياء أولى الناس بها، لكنهم، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، يتزوَّجون ويُنجبون. بل وقد يُبتلى الواحد منهم في خواص أهله لتزداد حرارة مكابداته، وتسمو من ثم مكانته درجات على سائر بني أمته. وذلك كما ابتُلي نوح في ولده، وإبراهيم في أبيه آزر، ولوط في امرأته. لقد كتب عليهم المولى تعالى مكابدة أنفسهم وأهليهم وأقوامهم جميعا، مكابدة شاقة؛ ليضرِبَ لنا مثالا على طبيعة الحياة التي كتبها على خلقه عموما، وأهل البلاغ السالكين منهم على وجه الخصوص.

إن مثال الأنبياء يكشفُ لنا أن التجربة الروحية التي يُمثِّلُها التصوف ليست تزكية ذاتية قاصِرة بغير غاية تتجاوز نفسك، بل إن واحدا من أهم غايات هذه التزكية الأبديَّة هو الدعوة إلى الله بالنفس: بالأسوة الحسنة. وبهذا تصير التزكية الروحية نفسها مرادف للدعوة إلى الله. بل تصير هي الدعوة نفسها، الدعوة التي ابتعث الله أمة محمد بها. ذلك أن الإنسان المسلم إما داعية إلى الله بنفسه، أو فتنة يَصُدُّ عن السبيلِ بهذه النفس، والعياذ بالله؛ ولا ثالث لهما. وإذا كانت التزكية الروحية والدعوة إلى الله وجهانِ لعُملةٍ واحدةٍ، فبهذا يتضح لنا أن إبلاغ الدعوة نيابة عن رسول الله، كما أَمَرَ صلى الله عليه وسلم كل مسلم؛ إنما يكون وجها لوجه، بالحركة داخل المجتمع بالأسوة الحسنة التي تتشكَّل بالتزكية. حركة تجمَّلت وتحدَّدت وجهتها بالتقوى، وهو ما لا يكون عن بُعدٍ أبدا، بالكتابة والتدوين، إذ لم ولن تُسهِم الكتابة في خلق مجتمع مُسلم ولا في علاج أمراضه، وإن كان لا غنى عنها في توثيق أطواره وتصوراته، وأحيانا لإقامة الحجة على النفس، بوصفه أضعف الإيمان.

ولهذا كله، فإن التصوف في حقيقته يُعنى أشد العناية بالعبادات اليوميَّة التي يُهمِّشها أكثر الناس بوصفها فروضا تُسقَط للتفرُّغ للدنيا. ذلك أن هذه العبادات نفسها هي التي تُعيدُ صياغة الوجدان، ومن ثم تشكل الواقع، إذ بها يُزكّي الإنسان نفسه، ويرقى في مدارج السلوك إلى الله، لتنعكِسُ العبادة انعكاسا رحمانيّا على الاجتماع الإنساني عندما يتحقق الإجماع بها وحدها، اجتماع الكلمة واتحاد الوجهة؛ فيتنامى أثرها المجتمعي الخلاصي كلما زاد عدد السالكين المخلصين، الذين يتعاملون مع الشهادتين بوصفهما إعادة تأسيس للوجود الإنساني والاجتماعي على قاعدة وَحدة الوجهة، وليسا محض كلماتٍ يَقذِفُ بها اللسان. ويتعاملون مع الصلاة بوصفها صلة يوميَّة مع مالك يوم الدين، المستعان على كل دابة هو آخذ بناصيتها؛ صلة يرتفع بها المُسلِم إلى مرتبة المستخلَف. ويتعاملون مع الزكاة بوصفها تزكية حقيقية للنفس وتطهير لها من آفات الشُحّ والأثرة والهوى قبل أن تكون تزكية للمال. ويتعاملون مع الصيام بوصفه الرياضة الروحية الأهم، التي تفتح لهم بابا ربانيّا لمكابدة أطماع النفس وكبح جماح شهواتها، قبل أن يكون مواساة للفقراء، ويتعاملون مع الحج بوصفه "تجربة" حياتية لعروج الأمة/ المجتمع إلى الله، بتجرُّد منطلقاتها ووحدة وجهتها، الأمة التي وثَّقت منطلقاتها ووجهتها روابط توادُّها وتراحُمها وتعاطُفها، وتواصيها بالحق وبالصبر على هذا الحق؛ قبل أن يكون فرضا ماليّا وجسمانيّا "مُبهم السبب" يتعيَّن على كل قادر الوفاء به متى تسنى له ذلك.

إن الاستهانة الضمنية بهذه العبادات، وما يتفرَّع عنها؛ وإسقاطها يوميَّا بممارسة بارِدة ميتة، بغير تغيير حقيقي يلمسه الإنسان في وجدانه وفي سلوكه، وفي مجتمعه المحيط؛ يعني أنه أبعد ما يكون عن حقيقة الإسلام، وأبعد ما يكون عن حقيقة العبودية، وأبعد ما يكون عن حقيقة الاستخلاف، ومن ثم؛ أبعد ما يكون عن حقيقة التصوف. إن هذا التهاون في أمر العبادة/ التزكية لا يؤثر سلبا على النفس فحسب، فيُضعفها ويُضعضِع قواها؛ بل يؤثر سلبا على الاجتماع الإسلامي كذلك. فكل مُقصِّر في أداءِ حقِ الله، هو بالتالي مُقصِّرٌ في أداءِ حقِّ الناس. ولن تجد مُقصِّرا في حق الناس إلا وهو مُقصِّرٌ أصلا في حق الله، وقبل ذلك وبعده ظالمٌ لنفسه.
التعليقات (0)