كتاب عربي 21

تركيا: هل حان الوقت للتفكير في الخيار الأوروبي؟

سعيد الحاج
1300x600
1300x600

باعتبارها غير مسبوقة وبسبب سياقها وتداعياتها، تبدو الأزمة الأخيرة بين تركيا والولايات المتحدة فرصة مهمة لإعادة الحسابات ومراجعة الرؤى والمسارات الاستراتيجية بالنسبة للسياسة الخارجية التركية.

بقيت تركيا لعقود مجرد قاعدة متقدمة لحلف الناتو وتابعة في سياستها الخارجية للولايات المتحدة، وحين أعادت اكتشاف نفسها ورسم أدوارها في السنوات القليلة الأخيرة بما يناسب رؤيتها لنفسها ومحيطها، بدأت الأزمات تتتالى مع واشنطن؛ التي لا تبدو متقبلة لهذا المتغير التركي، وتريد أن تبقى معادلة الحرب الباردة هي التي تدير دفة العلاقات مع أنقرة.

 

بدأت الأزمات تتتالى مع واشنطن؛ التي لا تبدو متقبلة لهذا المتغير التركي، وتريد أن تبقى معادلة الحرب الباردة هي التي تدير دفة العلاقات مع أنقرة


ورغم أن الولايات المتحدة تعمل بشكل واضح ضد المصالح الحيوية لشريكتها الاستراتيجية في أهم ملفين يمسان أمنها القومي، وهما ملف الكيان الموازي المتهم بالانقلاب الفاشل (أخطر حدث تمر به البلاد في السنوات الأخيرة) وملف الفصائل الكردية المسلحة في سوريا (الامتداد السوري للمنظمة الأخطر بالنسبة لأنقرة، حزب العمال الكردستاني)، إلا أنها ما زالت تنتظر منها التعامل بنفس منطق التبعية السابق ودون أدنى تمايز في السياسة الخارجية.

هذه الأرضية من العلاقات المتوترة الناتجة عن التضارب في المصالح والتعارض في السياسات، كانت تشتعل كل حين لسبب أو لآخر، مثل اعتقال شخص هنا أو اتفاق هناك. وفي كل مرة كانت العلاقات التركية - الأمريكية تتوتر، كانت أنقرة تجد نفسها أقرب إلى موسكو، التي أثبتت تفوقها في القضية السورية (الامتحان الأهم والأصعب للسياسة الخارجية التركية) من جهة، وحاولت جهدها احتواء تركيا (القوة الثانية في الناتو* بعيداً عن واشنطن والحلف الأطلسي، وهو ما أنتج التفاهمات التركية - الروسية، والإطار الثلاثي في سوريا، والمشاريع الاقتصادية العملاقة بين البلدين، وأخيراً صفقة "S400" الاستراتيجية.

وإذا كانت الولايات المتحدة تعمل علانية ضد المصالح التركية وتلوم عليها أنقرة دعمها الكبير والمستمر لحزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) وأذرعه العسكرية في سوريا، وهو النسخة السورية من العمال الكردستاني الانفصالي، وإذا كانت العلاقات بين الطرفين مرشحة للاستمرار في منحاها السلبي، فإن روسيا ليست أقل خطراً منها في هذا الملف. ذلك أن الأخيرة تحتفظ بعلاقة وثيقة وقديمة مع الحركة اليسارية الكردية في المنطقة، وقد افتتحت مكتباً لحزب الاتحاد الديمقراطي في موسكو إثر أزمة إسقاط المقاتلة الروسية، وما زال المكتب يعمل حتى اليوم، وهي لا تصنف العمال الكردستاني كمنظمة إرهابية، بالأصل خلافاً للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

 

روسيا ليست أقل خطراً منها في هذا الملف. ذلك أن الأخيرة تحتفظ بعلاقة وثيقة وقديمة مع الحركة اليسارية الكردية في المنطقة


يعني ذلك أن التقارب مع موسكو يفيد أنقرة تكتيكياً في ظل التوتر مع واشنطن، لكنه ليس خياراً استراتيجياً لها في ظل المعطيات سالفة الذكر، والتي تضاف إلى تاريخ العداء بين الطرفين، والمطامع الروسية في تركيا، والتنافس الشديد بين البلدين في البحر الأسود والبلقان وآسيا الوسطى، وتواجههما في إقليم ناغورنو كاراباخ (أهم عناوين الصراع في القوقاز)، و"حصار" روسيا لتركيا بعد تدخلها العسكري المباشر في سوريا، وعدم موثوقية المواقف الروسية واستقرارها على المدى البعيد، فضلاً عن إمكانية استغلال موسكو لحاجة أنقرة لها في ظل التوتر مع واشنطن لفرض وقائع لا تقبلها أنقرة في الملف السوري.

وهنا، ينبغي القول إنه بات من غير المفيد لتركيا الاستمرار بعقلية الحرب الباردة، وإدراك العالم في إطار معسكرين أو قطبين تقودهما الولايات المتحدة وروسيا، ما ينبغي أن يُعمِل التفكير في خيارات استراتيجية أخرى، وإعادة صياغة بوصلة جديدة للسياسة الخارجية.

 

من غير المفيد لتركيا الاستمرار بعقلية الحرب الباردة، وإدراك العالم في إطار معسكرين أو قطبين تقودهما الولايات المتحدة وروسيا


في النظام العالمي غير المتشكل وغير المستقر حالياً، والذي يتجه لعالم متعدد الأقطاب على المدى المتوسط، ثمة خيارات أخرى بالنسبة لتركيا في مقدمتها الصين والهند وأوروبا، ولأسباب كثيرة سياسية واقتصادية وتاريخية وجغرافية وأمنية، تبدو أوروبا هي الخيار الأمثل.

رغم الرغبة التركية القديمة بالانضمام للاتحاد الأوروبي، إلا أن العلاقات بين أنقرة وبروكسل يوترها ملفان رئيسان: تعثر مسار العضوية، وحزب العمال الكردستاني. فقد ووجهت تركيا بتشدد (ورفض) في مفاوضات الانضمام؛ أوصلها إلى لحظة التجميد وإعادتها إلى مربع البداية أو ما قبل مسار التفاوض، كما أن السماح الأوروبي لبعض الأنشطة المحسوبة على حزب العمال الكردستاني، المصنف إرهابياً بالنسبة لبروكسل، أو الداعمة له، يثير غضب أنقرة ويوتر علاقاتها معها.

تدرك أنقرة ويدرك معها الاتحاد الأوروبي أن عضويتها فيه بات أمراً شبه مستحيل؛ لأسباب سياسية واقتصادية وثقافية وفنية أبعد من مساحة هذا المقال. أكثر من ذلك، لم يعد الحلم الأوروبي يدغدغ مشاعر تركيا ومواطنيها بعد الأزمات المتلاحقة التي يعاني منها الاتحاد من جهة، والمتغيرات التي شهدتها تركيا على مدى الـ16 عاماً الأخيرة، من جهة أخرى.

فإذا ما كانت أنقرة قد تخلت عملياً (وإن لم تعلن رسمياً) عن مسار الانضمام وعضوية الاتحاد، فمن الذكاء والبراغماتية إزاحة هذه العقبة من طريق العلاقات الشائكة، وهو أمر سيفيدها كثيراً، إذ سيخفف عنها كثيراً ثقل الوصائية الأوروبية الحالية، وتدخل الاتحاد ودوله في شؤونها الداخلية بذريعة شروط الانضمام ومسار التفاوض.

 

إذا كانت أنقرة قد تخلت عملياً (وإن لم تعلن رسمياً) عن مسار الانضمام وعضوية الاتحاد، فمن الذكاء والبراغماتية إزاحة هذه العقبة من طريق العلاقات الشائكة


وأما ملف العمال الكردستاني، فأعتقد أنه أبسط بكثير من أن يكون عقدة أمام تحسن العلاقات بين الطرفين، فهذا النوع من الملفات يستخدم في حالات التوتر والتباعد، ويمكن التفاهم حوله وحل إشكالاته الأكبر في حال التوافق والتقارب.

تبقى تركيا "من أوروبا وإن لم تكن فيها"، كما يقول أحمد داود أوغلو، ويبقى الاتحاد الأوروبي الشريك الاقتصادي الأكبر لتركيا، حيث تتقدم ألمانيا وإسبانيا وفرنسا قائمة الشركاء الاقتصاديين لأنقرة، وهو ما يعني أن أوروبا/ الاتحاد خيار استراتيجي ممكن لتركيا، وهو ما يفسر أيضاً الأضرار التي لحقت بالأوروبيين جراء تدهور الليرة التركية بسبب العقوبات الأمريكية، وبالتالي المواقف الأوروبية، وفي مقدمتها الألمانية، الداعمة لتركيا والرافضة للعقوبات والتصعيد الأمريكيَّيْن.

ولعله من المفيد أيضاً الإشارة إلى التباعد التدريجي بين أوروبا والولايات المتحدة في عهد ترامب، من تخفيضه التزامات بلاده تجاه الناتو، إلى التراجع عن الشراكة عبر الأطلسي، إلى مشهد قمة "G7" الشهيرة، إلى تهديداته للأوروبيين على هامش العقوبات على إيران، إلى غيرها من الملفات النابعة من رؤية "أمريكا أولاً" التي تعتبر انقلاباً حقيقياً على المشروع الغربي - الأمريكي التقليدي، وهو ما يولد رغبة لدى أوروبا أيضاً للبحث عن بدائل ويفتح هامش الفرص أمام تركيا.

من المعروف أن تركيا تعمل على تعظيم قدراتها الذاتية وهو مسار مطلوب وضروري، لكن من المفهوم أيضاً أن ذلك لن يكفيها بالنظر لموقعها وقدراتها وإمكاناتها وأهدافها، ما يحيلها ويحيجها دائماً للشراكات ومسارات التعاون.

 

يبقى الاتحاد الأوروبي (أو أوروبا بالمعنى الأشمل) خياراً استراتيجياً ممكناً، بل وضرورياً لتركيا، يستدعي العمل على تهيئة أرضيته وتأمين متطلباته، وهي ليست بالكثيرة ولا الصعبة

وبالتالي، ففي ظل انخفاض مستوى العلاقة حالياً مع الصين والهند، وحالة السيولة والاضطراب في منطقة الشرق الأوسط، بما يؤجل إمكانية تشكيل أنقرة لنظام إقليمي تكون لها فيه الريادة ويشكل نوعاً من البديل لها. وبالنظر لما سبق ذكره من معطيات بخصوص الولايات المتحدة وروسيا، وهو غير المرشح للتبدل قريباً، يبقى الاتحاد الأوروبي (أو أوروبا بالمعنى الأشمل) خياراً استراتيجياً ممكناً، بل وضرورياً لتركيا، يستدعي العمل على تهيئة أرضيته وتأمين متطلباته، وهي ليست بالكثيرة ولا الصعبة.

يمكن لتركيا اليوم صياغة علاقة استراتيجية مع أوروبا بعيداً عن نقيضي العضوية والقطيعة، مثل شراكة استراتيجية أو خاصة، أو أي عنوان آخر يفيد هذا المضمون ويحفظ مصالح الطرفين، ويحمي تركيا من تقلبات وضغوط وعقوبات واشنطن وموسكو.
التعليقات (3)
اينشتاين
الأربعاء، 22-08-2018 01:43 م
تركيا الجديدة تواجه أكثر من تحدي والأخطر هو التخلص من التبعية إلى الغرب الليبرالي الرأسمالي الاستعماري ، المسألة لا تتوقف عند جغرافية تركيا ، فهي تتصل بعمقها الحضاري ، لذلك وجب في ظل الحركية التاريخية وسط الكم الهائل من الركام المتحرك تشغيل أجهزة الإنذار المبكر والحيطة من الهزات المتوقعة وغير المتوقعة ، كما يجب الأخذ في الاعتبار الواقع العربي المؤلم بمختلف أعراضه ومشكلاته ، الحركية التاريخية لها ثمنها ، لكن تركيا من خلال المسار الجديد يمكن أن تعتمد على النخبة المؤمنة ذات التأثير الفعال داخل أوربا وأمريكا من أجل بلورة ما هو معرفة وإبداع ضمن إطار المبادرة لصناعة الفارق الذي يساعدها على تذليل العقبات والتقليل من الآثار السلبية ، نسأل الله أن يعلمنا علما نافعا وأن ينفعنا به وأن يأخذ بأيدي العاملين الصابرين إلى شط الأمان ، فقط وجب الأخذ بعين الاعتبار مسار الفلسفة المنغلقة المتسترة من وراء الحركية الانجيلية داخل الولايات المتحدة الأمريكية والتي تؤطر إلى حد بعيد المشهد الأوروبي ، خصوصا من بعد انسحاب أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ، وفق الله إخواننا الأتراك وسدد خطاهم .
السوري
الأربعاء، 22-08-2018 09:11 ص
بالاضافة الى كل ماذكره المؤلف اهم امر ان اردوغان بسياسته الاسلامية القيادية الديمقراطية يمكن ان يوحد الأمة الاسلامية حوله كعودة للخلافة العثمانية وبالتالي انهيار كل مخططات الدول الاستعمارية وسايكس بيكو لتفكيك الدول الاسلامية خاصة منها العربية وهذا هو برأيي السبب الاستراتيجي والاهم لعداء اميريكا وأوروبا الضمني لتركيا
قارئ
الثلاثاء، 21-08-2018 01:42 م
السياسة هي فن الممكن ورد الفعل بالقدر المطلوب دون تجاوز، مراعاة للقدرات والتطورات المستقبلية. وأردوغان قبل غيره يعرف مدى الضرر الذي يمكن أن تلحقه الإدارة الأمريكية بتركيا واقتصادها واستقراراها السياسي. فبعد أن هدأ التوتر قليلا يوم الجمعة وبدأت الليرة في استرداد أنفسها، صدرت تصريحات جديدة من الإدارة الأمريكية تحمل تهديدات جديدة فتوقف صعود قيمة الليرة بل وبدأت في التراجع مرة أخرى. وبعد جهود السلطات التركية لاحقاً في محاولة وقف هذا السقوط عن طريق أدوات السياسة النقدية والائتمانية، صدرت تقييمات سلبية من وكالات التقييم الائتماني التي تهيمن عليها أمريكا تخفّض المكانة الائتمانية للاقتصاد التركي وسيكون لها تأثيرها على وضع الليرة. وحسناً فعل أردوغان في تقييد تصريحاته في الفترة الأخيرة حتى أنه بدأ يشير إلى الأعداء الذين يتآمرون ضد بلاده دون أن يذكر أمريكا بالإسم وهو يُنصَح حقاً بالاستمرار في ذلك ومحاولة التهدئة. فالاقتصاد التركي مرتبط ارتباطا شديداً بالاقتصاد الأوروبي بالدرجة الأولى وإلى حد ما بالاقتصاد الأمريكي. وإلى أن تصبح تركيا قوة من الدرجة الأولى افتصاديا وعسكرياً وصناعياً، يكون عليها حساب كل خطوة تخطوها والتأني في اتخاذ أي قرار قبل اتخاذه.