ملفات وتقارير

دبلوماسية الرياض: ردات فعل مفرطة وتداعيات اقتصادية وطبية

تراجعت الصادرات الألمانية إلى السعودية خلال العام الماضي بنسبة 9 بالمئة مقابل تراجع بحوالي 28 بالمئة عام 2016- جيتي
تراجعت الصادرات الألمانية إلى السعودية خلال العام الماضي بنسبة 9 بالمئة مقابل تراجع بحوالي 28 بالمئة عام 2016- جيتي

تكررت أزمات المملكة العربية السعودية السياسة خلال السنوات الأخيرة مع عدة دول غربية، كان أهمها السويد وألمانيا وكندا، ما يطرح تساؤلا حول دبلوماسية المملكة ونجاعتها في التعامل مع دول العالم.

 

وبدأت الأزمة مع السويد في آذار/ مارس 2015 حينما استدعت الرياض سفيرها لدى ستوكهولم، بسبب وقف الأخيرة تعاونها العسكري مع السعودية "لعدم احترامها لحقوق الإنسان".

 

وتعود جذور الأزمة الدبلوماسية بين البلدين إلى تكرر الدعوات من دول أوروبية بالإفراج عن عدد من النشطاء السياسيين والحقوقيين المسجونين في المملكة على خلفية قضايا سياسية وفكرية، وخصوصا حبس وجلد المدون رائف بدوي في ذلك الوقت، إلا أن الرياض رفضت كل تلك الدعوات.


وضغطت السعودية عند بداية الأزمة لمنع إلقاء وزيرة خارجية السويد مارغوت فالستروم من إلقاء كلمة في اجتماع للجامعة العربية في القاهرة، بعد تصريحات للوزيرة أدانت فيها ما دعته " أساليب القرون الوسطى" في الحكم على رائف بدوي. 

 

اقرأ أيضاصحيفة ألمانية: هل أصبحت رؤية ابن سلمان على المحك؟

 

وبعد مناقشات داخلية، قررت الحكومة السويدية وقف صفقة السلاح الموقعة مع المملكة في عام 2005، التي جعلت السعودية ثالث مشتر للسلاح من السويد- إذا ما تم استثناء الدول الأوربية-، وهو القرار الذي أدى لاستدعاء السفير السعودي في ستوكهولم.

 

وقبل مرور شهر على اندلاع الأزمة، قدمت حكومة السويد اعتذارا للسعودية، وقال رئيس الحكومة السويدية إن "دور خادم الحرمين معروف في حماية الإسلام، ويؤسفنا أي تأويل أننا أهنا السعودية أو الإسلام، ونرجو تفهما سعوديا لقلقنا الفعلي على العلاقات".

 

وبعد عامين وتحديدا في تشرين الثاني/نوفمبر 2017، اندلعت أزمة دبلوماسية جديدة بين السعودية ودولة غربية أخرى هي ألمانيا، حينما سحبت الرياض سفيرها من برلين للتشاور، بعد تصريحات لوزير الخارجية الألماني آنذاك زيغمار غابرييل وصف فيها السياسة السعودية بالمغامرة، وانتقد بشكل حاد سياسة الرياض في المنطقة.

 

وقالت متحدثة باسم الخارجية الألمانية ردا على الغضب السعودي في ذلك الوقت، إن "التحدث عن ذلك علانية أمر جائز وبديهي بين الشركاء الدوليين المرتبطين بعلاقات وثيقة، ونحن نوجه رسالتنا إلى الأطراف الفاعلة في المنطقة كافة".

 

وجاءت تصريحات غابرييل التي تسببت بالأزمة، في أعقاب احتجاز رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري في الرياض، وما صاحبها من انتقادات عالمية لاذعة للسلطات السعودية، لتدخلها في شؤون الدول الأخرى.

 

اقرأ أيضا: صحيفة إسبانية: هل أضحت أيام ابن سلمان بالحكم معدودة؟

 

وسحبت السعودية سفيرها لدى برلين، واستمرارا لخطواتها التصعيدية استثنت الرياض شركات الرعاية الصحية الألمانية من العطاءات الحكومية منذ أوائل العام الجاري، لكن وزير الخارجية السعودية عادل الجبير قال في شباط/ فبراير الماضي إن "عودة السفير السعودي إلى برلين مرتبطة بتشكيل حكومة جديدة في ألمانيا"، وفي منتصف آذار/ مارس الماضي، أعادت الرياض سفيرها إلى برلين بعد تشكيل الحكومة الألمانية الجديدة.

 

وألقت الأزمة بين الرياض وبرلين، آثارها بشكل واضح على التبادل التجاري بين البلدين، بحسب إحصائية حديثة للنصف الأول من العام الجاري؛ أظهرت تراجعا كبيرا للصادرات الألمانية إلى السعودية بنسبة وصلت 5 بالمئة، في ظل توارد أنباء عن رغبة سعودية بمعاقبة ألمانيا، لانتقادها المستمر للسياسات السعودية لانتهاكها حقوق الإنسان والحد من الحريات الصحفية في المملكة، بحسب بيانات مؤسسة التجارة الخارجية الألمانية.

 

ولا تشير معطيات الأشهر القليلة الماضية إلى اتجاه معاكس لمنحى التراجع، لا سيما وأن الصفقات السعودية الضخمة التجارية منها والاستثمارية مع الخارج، أعطت الأولوية للشركات الأمريكية والبريطانية حتى الآن.

 

ووفق مؤسسة التجارة الخارجية الألمانية، تراجعت الصادرات الألمانية إلى السعودية خلال العام الماضي بنسبة 9 بالمئة مقابل تراجع بحوالي 28 بالمئة عام 2016، وتدهورت قيمتها من نحو 10 مليارات يورو في عام 2015 إلى 7.2 مليار يورو خلال العام الماضي 2017.

 

أما الأزمة الدبلوماسية الأخيرة فكانت من نصيب كندا، واندلعت في آب/أغسطس 2018، بعد أن سحبت المملكة سفيرها من أوتاوا وطلبت من السفير الكندي مغادرة البلاد، احتجاجا على تصريحات لكل من وزيرة الخارجية الكندية وسفارتها في السعودية.

 

وكانت الوزيرة أعربت عن قلقها البالغ إزاء الاعتقالات الإضافية لنشطاء المجتمع المدني ونشطاء حقوق المرأة في السعودية، مطالبة السلطات بالإفراج الفوري عن جميع النشطاء السلميين في مجال حقوق الإنسان.

 

ردة فعل مفرطة

وفي تقرير لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى تحدث الباحث الأمريكي المتخصص بالخليج سايمون هندرسون عن السياسات الخارجية للسعودية، معربا عن استغرابه من ردة الفعل "المفرطة" تجاه المطالب الكندية بالإفراج عن معتقلات حقوقيات.

 

ولفت هندرسون إلى أن "القلق الدولي يتزايد حول مصير المدنيين والقتلى الذين سقطوا في الفترة الأخيرة بالقصف السعودي"، مضيفا أنه "في العام الماضي كان القادة العرب والغربيون يراقبون بحيرة إقدام الأمير محمد بن سلمان على اعتقال رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري ثم إجباره على الاستقالة، وقد سارع الأخير بسحب استقالته بعد عودته إلى موطنه".

 


أضرار اقتصادية وصحية

تحمل المشاكل الدبلوماسية بين أي بلدين تداعيات سلبية على مواطني البلدين، وتمثل عبئا على العلاقات والتبادلات التجارية والتعليمية والثقافية، وهو ما يجعل أي دولة تفكر طويلا قبل اتخاذ إجراءات تسبب لها أزمة مع أي بلد في العالم.


وكانت العلاقات الاقتصادية، والقطاع الصحي هما أكبر المتضررين من الأزمتين بين السعودية وكل من ألمانيا وكندا، نظرا لحجم التبادل بين البلدين وبين المملكة.

وأشارت عدة تقارير غربية إلى التداعيات السلبية على القطاع الصحي في السعودية بسبب أزمتها مع كندا، وذلك بسبب قرار الرياض إعادة طلابها المبتعثين إلى المستشفيات الكندية بشروط بسيطة وبتخصصات مهمة وحيوية خصوصا في مجالات الأطفال والسرطان، حيث سيصبح هؤلاء الطلاب من جهة في وضع غريب بسبب تركهم التدريب في منتصف الطريق، ومن جهة أخرى فإن المستشفيات السعودية ستخسر أطباء مهرة في المستقبل، ومن جهة ثالثة فستتأثر المستشفيات الكندية وستحتاج لوقت أيضا لاستبدال هؤلاء الأطباء بآخرين من دول أخرى.

 

اقرأ أيضامجلة: قرار الرياض سحب مبتعثيها من كندا سيعرقل مسيرتهم

وقد أدى القرار المتعجل بسحب المبتعثين إلى حالة من الفوضى لدى الطلاب بحسب تقارير إعلامية، فيما قرر بعضهم بعيدا عن الإعلام تقديم اللجوء لكندا لضمان استمراره بتخصصه الطبي.

 

وأضطرت الحكومة السعودية للتراجع بصمت عن قرارها بسبب الفوضى والاحتجاج الذي تسبب به القرار للطلبة، وبسبب تداعياته على المستشفيات التعليمية، وأرسلت وزارة التعليم رسالة للطلاب قالت لهم فيها إنه يسمح لهم بمواصلة التدريب حتى يتم الحصول على برامج مماثلة لهم في دول أخرى.


ولم يختلف الوضع كثيرا في الأزمة بين السعودية وألمانيا، حيث كان القطاع الصحي من أكثر القطاعات تأثرا، بسبب العقوبات-غير المعلنة- التي لا تزال تفرضها المؤسسات السعودية على شركات الأدوية والمنتجات الطبية الألمانية.

 

وفي تطور جديد على صعيد أزمة تجارة الأدوية بين البلدين، نشر موقع دي دبليو الألماني رسالة شديدة اللهجة وجهتها روابط صناع أدوية أوروبية وأمريكية إلى ولي العهد السعودي، عبرت فيها تلك الروابط عن "قلقها العميق بشأن شروط التوريد الصارمة التي باتت الرياض تفرضها على العقاقير الألمانية، ردا على انتقادات سابقة لبرلين بشأن وضعية حقوق الإنسان في المملكة".

وبحسب الموقع الألماني فإن "صرخة رابطات صناعات الأدوية الغربية جاءت مدوية لأنها استثنائية من حيث الشكل والمضمون"، كما أنها حذرت من أن "الإجراءات السعودية يمكن أن تكون لها تداعيات على تموين مستدام بأدوية حيوية ومبتكرة في علاج المرضى في المملكة العربية السعودية". 

دبلوماسية "الدولار"

وطرحت هذه الأزمات المتكررة بين عدد من الدول الغربية والسعودية، تساؤلا بارزا حول معايير العمل الدبلوماسي السعودي في التعامل مع الخلاف بين الدول، في ظل الانتقادات الأوروبية المتزايدة للسعودية بسبب انتهاكات لحقوق الإنسان داخل السعودية، إضافة لما تسببه الحرب في اليمن من دمار وضحايا في صفوف المدنيين.


وفي هذا الإطار، يرى السفير المصري السابق إبراهيم يسري أن "العمل الدبلوماسي يحكمه قاعدة مهمة جدا، مفادها أن الدولة الأقوى هي التي تفرض سياساتها وتتحكم في علاقاتها مع الدول الأخرى".

 

ويضيف يسري في حديث خاص لـ"عربي21" أن "السعودية ليست قوية عسكريا وإنما تعتمد قوتها على الأموال التي تمتلكها"، معتقدا أن "الرياض تعاملت مع أزماتها المتعددة مع الدول الأخرى بما فيها الغربية، من خلال أموالها".

 

وحول نجاح السعودية في ممارسة العمل الدبلوماسي في خلافها مع الدول الغربية، يشدد يسري على أن "الأموال هي التي تحكم تعاملات الرياض"، مشيرا في الوقت ذاته إلى أن "ما حدث في الأزمة الأخيرة بين السعودية وكندا لا يتعلق بالمطلق بالعمل الدبلوماسي".

 

ويوضح يسري قائلا: "الإجراءات السعودية بعيدة عن الدبلوماسية على الإطلاق"، مؤكدا أن "أي أزمة بين دولتين تتبعها مباحثات دبلوماسية، وهو ما لم يحدث في أزمة كندا"، مشددا في الوقت ذاته على أن "ما حدث خسارة للسعودية أكبر من أن تكون خسارة لكندا".

 

وختم السفير المصري السابق بقوله إن "ما يحرك السياسات السعودية قوة المال التي تتفوق على أي عمل دبلوماسي في مثل أزمات كهذه".

ويتفق المختص في القانون الدولي علاء بني فاضل مع السفير يسري في أن "الدول العربية لا تتعامل بدبلوماسية في حل مشاكلها مع الدول الأخرى"، موضحا أن "ذلك يعود لأسباب عدة أهمها، أنه لا يوجد كادر دبلوماسي قادر على ممارسة هذه العملية بمهاراتها المختلفة".

 

ويضيف بني فاضل في حديث لـ"عربي21" أن "السعودية تتعامل مع أزمتها الأخيرة مع كندا دون دبلوماسية، لأن هذه المسألة تحتاج إلى أشخاص مختصين بالعمل الدبلوماسي الغائب عن الرياض"، مشددا على أن "الدول الغربية تمتلك من الدبلوماسيين ما يجعلها قادرة على حل هذه الأزمات، خاصة أنها مستندة إلى حقوق الإنسان".

 

ويرجح بني فاضل أنه "في ظل غياب الدبلوماسية المهنية في تعاملات السلطات السعودية مع الدول، فإن كندا ربما تلجأ لتقديم شكوى في مجلس حقوق الإنسان الدولي ضد الرياض، لقيامها بانتهاكات إنسانية"، وفق تقديره.

من جانبه، يؤكد المرشح الرئاسي الأسبق ومساعد وزير الخارجية المصري السابق، عبدالله الأشعل، أن السعودية تستخدم ما وصفها بـ"دبلوماسية الدولار" في التعامل مع أزماتها الخارجية، وخاصة بالنسبة للانتقادات الدولية لسجلها الحافل بانتهاكات حقوق الإنسان.

 

وقال الأشعل في حديث خاص لـ"عربي21"، إن "دبلوماسية الدولار أصبحت مكشوفة للجميع، وباتت معتمدة تماما لدى المؤسسات السعودية الداخلية حتى يُسمح لها بإطلاق يدها في ارتكاب أي انتهاكات حقوقية، سواء داخل المملكة أو في اليمن أو غيره".

 

وذكر أن "الثابت والمتعارف عليه أن الدول الأوروبية –ومن بينها كندا- وأمريكا يعترضون على انتهاكات حقوق الإنسان في دول العالم، ومن بينها السعودية، ولكن وجود انتقادات محددة وقوية على الممارسات السعودية حاليا أمر لافت، وقد يكون له أهداف بعينها".

 

وتوقع الأشعل أن "تتراجع كندا في نهاية المطاف عن مواقفها مع السعودية، بل إنها قد تعتذر للمملكة، على غرار ما حدث سابقا مع السويد وألمانيا، وذلك بسبب لعبة المصالح التي تعلو فوق المبادئ، خاصة أن السعودية تقوم بشراء ولاءات وتكوين لوبيات غربية، تدعم مواقفها وتدفع لهم الكثير من الأموال الطائلة".

 

ونوه "الأشعل" إلى أنه "أصبح مألوفا في الممارسات الدولية أن يتم شراء تصويت الدول في المنظمات الدولية، ويتم شراء القرارات الدولية، وثمن الصمت على المخالفات من جانب بعض الدول"، مضيفا أن "الدول دائما تجري وراء مصالحها بالأساس، وإن كانت تحاول أن توازن بين تلك المصالح والشعور الأخلاقي والمبدئي لديها".

 

واعتبر أن السعودية نجحت نجاحا باهرا في استخدام "دبلوماسية الدولار"، وهي تحاول أن تبدو كدولة عظمى من نوع خاص، فرغم أنها لا تمتلك أي مقومات للدول العظمى الحقيقية من حيث أدوات التأثير والقوة الفعلية، وأن تكون طرفا أساسيا في صناعة القرارات الداخلية والخارجية، إلا أنها لا تمتلك سوى المال لتسخره في دعم سياساتها الداخلية والخارجية.

 

وأردفت مساعد وزير الخارجية السابق قائلا: "معلوم أن للدول العظمى مقومات محددة لا تتوفر للدول العربية التي تخضع لمؤثرات خارجية شديدة، فلا يزال الاستعمار بصور أخرى يتحكم في مصير الدول العربية وسياساتها".

 

اقرأ أيضا: مفاجأة.. هذا العدد من الطلبة السعوديين يطلبون اللجوء بكندا

التعليقات (0)