كتاب عربي 21

كل يا بهاء!

طارق أوشن
1300x600
1300x600

بركة: ايش رأيك نتقابل.. تغيير جو يعني.

بيبي: بركة.. ترى ما ينفع تيجي عند الباب كده مرة تانية. ده حركات مراهقين.

بركة: آسف ما كنت أدري.. بيبي بالنسبة لك ايش المناسب لاتنين زينا فين يقدروا يتقابلوا؟

بيبي: خلينا نشوف خياراتنا. أنا اقولك.... نروح مطعم زي أي اتنين عشاق في أول موعد غرامي.
قطع على مشهد بمطعم راقي.

بيبي: المطعم ده يعمل سمك هايل.

بركة: أنا جدا سعيد.

النادل: سيدتي.. تأخر الوقت..

يقفز بركة من مكانه هاربا. 

بيبي: لا لا.. الأيام دي صيف ولازم نغير جو.. نحتاج نسمة حلوة.

قطع على مشهد على الشاطئ حيث يجلس الاثنان جنبا إلى جنب.

شاب: (مستعجلا) طبقة طبقة..

يهرب الاثنان.

بيبي: طيب طيب.. احنا عقلاء أكبر من كده ولازم نكون ايجابيين وما نسخط على حالنا. ليش ما نطلع نلف بالسيارة ونسمع أغاني.. العبرة باللقاء والأشخاص والكيميا مو بالمكان.

مشهد للاثنان داخل السيارة يستمعان للموسيقى. صفارات سيارات الشرطة تدوي في المكان.

بيبي: (تكمل محادثتهما عبر الهاتف) شفت.. خياراتنا في الآخر حتنحد على بقالة ولا صيدلية. يا ويح قلبي.. حياة فقيرة يا أخي ما فيها رومانس..

أين يتقابل عاشقان في المملكة العربية السعودية؟ هي تيمة فيلم (بركة يقابل بركة ـ 2016) للمخرج محمود صباغ. تبدو الحكاية مستهلكة لكنها في السعودية مسألة "وجودية" يعيش على وقع تداعياتها مجتمع شاب "منفتح" في مواجهة موظفي "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، بشكلها القديم قبل تحجيم دورها، أو موظفي البلدية أو حراس البوابات القائمين على تطبيق الفضيلة وقوانين الفصل بين الجنسين.

في السنتين الأخيرتين شهدت السعودية كثيرا من التغييرات، بأمر ولي الأمر، استعادة لما اعتبرته أبواق الدعاية الرسمية وجه السعودية لما قبل حادثة الحرم التي قادها جهيمان العتيبي وأفضت إلى إعدامه جسدا وتطبيق ما جاء في كتابه "رسالة الإمارة والبيعة والطاعة" في شقها الاجتماعي والديني دستورا يسري على السعوديين أو بعض منهم على الأقل. وكان مفترضا أن تصبح حرية اللقاء واختيار اللباس وغيره من أبجديات الحريات الفردية واقعا معاشا تختفي معه مظاهر التشدد والغلو والانغلاق.

 

لكن الواضح أن المملكة حجمت دور "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" على الأرض، لما في وجودها الجسدي من خدش لحياء البلاد أمام الأمم وإخلالا بالصورة الجديدة المراد تسويقها عن المجتمع وحكامه، لكنها استبدلتها بهيئة أكبر عددا وأشد طغيانا على مواقع التواصل الاجتماعي تعدى عملها السهر على "الفضيلة والأخلاق" إلى الوشاية المباشرة والعمالة للأجهزة بمختلف أنواعها.

يقول بركة محدثا جاره المخضرم دعاش..

بركة: كانت تضحكني. حقيقة حسيت أني أقدر أحبها وأشاركها حياتي. بس معاها عرفت أنا مين وتغلبت على أوهامي. كله طااار... الفكهاني قالها أصلا: حنصحى لنا كم يوم وحننام دهر لأنو هنا الحلم يوم والمر دهر.

بهاء موظف مصري كان آخر ضحايا هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الإلكترونية، والتهمة إفطار مع زميلة "سعودية" في موقع العمل بمدينة جدة حيث صور فيلم (بركة يقابل بركة)، وهو فعل اعتيادي في كل دول العالم واعتبرته الجهات المختصة فعلا "مسيئا" يستوجب العقاب واعتقال صاحبه دونا عن الزميلة/المواطنة.
 
تظهر الحادثة سكيزوفرينية سلطة تود الظهور أمام العالم بمظهر السلطة المصلحة والمنفتحة على محيطها الإقليمي والدولي. لكن الواقع أظهر أن "إصلاحاتها" مجرد مساحيق مظهرية تستهدف بالأساس التغطية على القمع المسلط على الأصوات "المعارضة" ولو كان نشاطها مساندا لإصلاحات الواجهة تلك. في السعودية لا تغيير إلا بمقدار وبأمر الحاكم، وأي اجتهاد شخصي خارج المنظومة السلطوية خروج عن النظام يستوجب الزجر والعقاب أمام تصفيقات اللجان الالكترونية وتطبيلها.

في السيارة يستمع بركة للراديو في فيلم (بركة يقابل بركة).

صوت الراديو: الحورية حلالك.. والوصيفة حلالك. وإن فرضنا عندك أربع زوجات زمع كل واحدة سبعون حورية ومع كل حورية سبعون وصيفة، كم صار الجميع؟ 

بعد كل هذا التهييج، برعاية دينية وسياسية رسمية، يترك الشباب السعودي فريسة للمنع والمتابعة بما يمثله ذلك من خنق للفضاء العام حتى أن صارت علاقة الذكر/الأنثى محصورة في استيهامات جنسية متخيلة.

على شاطئ بحر جدة أول لقاء بين الفتاة بيبي/بركة والموظف بالبلدية الشاب بركة.

بركة جالس على أرجوحة ينتظر. تجلس بيبي بجنبه على أرجوحة أخرى.

بركة: (وهو يمد لها هدية) أهلا وسهلا..

بيبي: خلي بيننا مسافة.. في التأني السلامة.

بركة: جبتلك هدية صغيرة.. اتفضلي.

بيبي: (الهدية عبارة عن لباس داخلي نسائي) آه ربي.. شيل.. قفل قفل.

بركة: ايش فيه؟

بيبي: ايش جو التمانينات ده. أنا ما اقدر اقبل منك هدية زي كده.. يعني لسه في أول أيام التعارف

بركة: عادي.. هادي هدية لك

بيبي: (تصرخ) لأ

بركة: ايش أسوي فيها؟ حرام تترمي.

بيبي: اديها لأحد من قريباتك.. لما تبغا تهدي ست في الزمن ده ترى ما في أحلى من الورود. بيضاء للنقاء.. حمرا للعشق والصبابة وزهرة بنفسج للبدايات الجديدة. معروفة يعني... روح روح انت الجو شوية ما يطمن..

وفي نفس اليوم الذي وجد فيه بهاء المصري نفسه موقوفا على ذمة "الفيديو المسيء"، كانت حليمة بولند تستعرض في حسابها الهدية الفخمة التي وصلتها من مكتب خادم الحرمين الشريفين ممهورة بعبارة (أجمل جميلات الكون تحت رجلك جارية). هدية بقيمة ثلاثة ملايين ريال عبارة عن عطور بأسماء أفراد العائلة، هي الهدية التي لا تطالها عقوبات الهيئة ومن خلَفها ولو حملت من كلمات الغزل ما يخدش المرأة وحقوقها. وبين الحادثين يبدو أن الانفتاح المزعوم حصر على طبقة الحكام والأغنياء يمارسونه بالسر والعلن، ويجدون من الدعاة والشيوخ التبريرات الشرعية مهما بدت نشازا. عبد العزيز الريس، زعم أن للحاكم الحق في ممارسة الزنا جهارا على التلفزيون لنصف ساعة، وشرب الخمر علانية دون أن يسأل أو يخرج عليه. كل ما يسمح به دين "الريس" الدعاء للحاكم حتى تجتمع قلوب الناس عليه. لكن شرطة الرياض كان لها رأي آخر فاعتقلت مواطنا ومقيمين بدعوى أنهم وراء هدية حليمة "لأسباب شخصية" لم يتم تحديدها بعد.

الإشكال في المملكة السعودية أن "التشدد" في القوانين المجتمعية كانت اختيارا للحاكمين، والنزوع لتغيير البوصلة في اتجاه "الانفتاح" مجرد أمر سلطوي يعتقد أن لا مجال أمام الشعب إلا الانسياق وراءه وفق مقادير الحكام ورغباتهم.

يدخل بركة إلى البيت حيث والده المقعد الضرير. يحدثه وكأنه يناجي نفسه على خلفية صور تظهر كيف كانت الحياة مبهجة بسعودية الأجيال السابقة وكيف تحولت إلى مجتمع منغلق في حاضر الأيام.

بركة: ايش صار ببلدنا يا شائب.. هادي بلدنا دي الحين (صور منقبات).. هادي الحياة العامة (صور لمنتسبي هيئة الأمر بالمعروف والشرطة) هادي الفعاليات (صور ملتح يكسر آلة عود وهو يكبر) وده شكل الفرحة (نساء منقبات يستخدمن الجوالات للتصوير) هذا التلفزيون (برنامج ديني) هذا النجم الشعبي الأول (محمد العريفي) وكده شكل الحرم. كده مضيفات الطيران يلبسون (أسيويات محجبات)... وهذا كان جيلكم (صور شباب على الشاطئ بلباس قصير) كده كانت الحياة العامة (صور أفراح في الشارع) كده الفعاليات (صورة مطرب وفرقة موسيقية) وهذا هو التلفزيون (برامج منوعات وأطفال) كده كانوا يلبسون المضيفات (لباس عصري) وده كانت المطربة الشعبية الأولى (صورة أم كلثوم) وهذا الحرم... جيلك عاش بالطول وبالعرض ولما كبر خاف. هو سلم بس جنا على جيلنا.

في مكان آخر من الفيلم يقارن بركة بين واقع الفعاليات الثقافية والتعليم ووضعية المرأة في سعودية الماضي وأحوال نفس الميادين اليوم. وينتهي إلى نتيجة أن حادثة الحرم بزعامة جهيمان العتيبي كانت الفيصل بين عالمين متناقضين، قبل أن يختم قائلا: بعدها صار حدث كبير (على صور حادثة الحرم) السينما تقفلت والتلفزيون تراجع... احنا عايشين في دولاب.. جيلنا كله عايش في دولاب ما نقدر ننفك منه.

التعليقات (0)