مقالات مختارة

للتطبيع وجوهٌ أخرى في نقد "العادي"

يحيى مصطفى كامل
1300x600
1300x600

إذا كان العالم يعيش ظاهرة صعود "الشعبوية" بصفة عامة، فإن منطقتنا بالأخص ترزح تحت أنظمة دشنت حقبة الثورة المضادة، وفي الصدارة من ذلك المشهد الكئيب، أنظمة السعودية ومصر والإمارات المتحدة، ويوشك أن ينضم إليها مظفرا على أشلاء مئات الألوف من الضحايا والشهداء النظام السوري، ما ينبغي أن يذكرنا بأن مستجدات كصعود الشعبوية في الغرب والثورة المضادة في منطقتنا ليست إلا انعكاسات أو تجليات لفترة بلغت فيها أزمة الرأسمالية الغربية أوجها، مع محاولات من قوى بازغة لإعادة توزيع الكعكة والمحاصصة، ومقاومة الغرب تآكل دوره وعلى رأسه الولايات المتحدة.

كما ينبغي أن نذكر أنفسنا أن تلك الصراعات جميعها قبيحة وبائسة، لا شبهة لمجد أو رغبة في التحرر والتطور في أي منها، فليس هناك ملائكة ولا دولٌ تقف إلى جنب قوى تحررية، كما كان الأمر في السابق، بل نحن نراقب ونتابع تكالبا شرسا بين السيئ والأسوأ، المجرم والأكثر إجراما، من يدعي الالتزام بالمبادئ، ومن قد نتصور أن ثمة قواعد ديمقراطية للعملية السياسية قد تلجم جموحه، ومن هو متحللٌ منها تماما.

إلا أن من أكثر ما يؤرقني ويزعجني في المحيط العربي في خضم كل هذا، على الصعيدين الفكري والنظري، هو تلك الهجمة "التطبيعية"، لا مع الكيان الصهيوني فحسب، ولكن مع جملة من الأفكار والمفاهيم والانطباعات السلبية والمدمرة، بما تمثله من ردة على كل مكتسبات التطور والتحرر البشري، الذي خيضت من أجله صراعات.

يكفي أن تطالع الصحف وتسمع شهادات الثقات، لتقرأ آخر أخبار المجزرة في سوريا، وما رافقها من تطهير طائفي وتوطين لعناصر مجلوبة، في إعادة تشكيل للهوية والانتماء، بما يخدم النظام. ولتجابه مقتلة بربرية في اليمن، وفي الحالتين لا يبدو أن أحدا يكترث أو لديه النية لإيقاف تلك الجرائم، ناهيك عن محاولة ملاحقة المجرمين، أو حتى السعي للضغط على الأنظمة لتقديم تنازلات للناس، وهو أضعف الإيمان. 

في مصر يلاحق النظام لا الناشطين فحسب، وإنما كل من تسول له نفسه الكلام، أو حتى التفكير، ويسحق كل محاولات التجمع بغرض التنظيم، وإحداث أي تغيير، أو بادرة حركة ذات معنى. بيد أن ذلك لا يتم بالقمع وحده وإنما تصاحبه حملةٌ إعلاميةٌ مسعورة، لا تكتفي بالافتراء والتدليس على الثورة وآمال الناس، وإنما تجترح الأسوأ: التلفيق وتزوير التاريخ.

ووفقا للسرديات التعسة لا يصبح الشعب المصري في واديه الخصب في محيطه الطبيعي، هو المبدع والصانع وخالق القيمة، وانعكاسات كل ذلك من الأفكار والأساطير والأحلام والأدب والشعر وحتى الأطر التنظيمية والسياسية على مر التاريخ، وإنما يعلمنا الجهابذة بأن مصر جيشٌ أوجد بلدا، فأنعم بنفحات العلم وبدرر المعرفة المختزلة.

لكن الأزمة تتعمق والمشكلة تتضاعف، إذ تتبين أبعادها الحقيقية لدى تأملنا لمجمل تحركات الأنظمة (وعلى رأسها المصري) في مجال السياسة الداخلية، ومجال الانتهاكات الداخلية، من قتل بالجملة وتصفيات جسدية للمعارضين (وهنا يبز النظام السوري أقرانه)، لنتبين أن الثورة المضادة تأديبٌ وترهيبٌ وإعادة تربية وتكوين لا للخريطة السياسية فحسب وإنما للمفاهيم والثوابت والحالة النفسية والمزاجية.

سنكتشف أننا نظلم كلمة "تطبيع? حين نحصرها في علاقتنا بالكيان الصهيوني (وهي قائمةٌ بالفعل منذ أمد بعيد مع الأنظمة) فالتطبيع كلمةٌ أعم، وبمعناها الأوسع في رأيي هي إكساب الاستغلال الرأسمالي، وكل ما بُني عليه ويلحق به من أفكار ومفاهيم وقيم وبنى فوقية سمة وتوصيف "الطبيعي" و"العادي"، كأنه حقيقةٌ أبدية وعلمية لا تقبل التغيير ككون كل الكائنات تحتاج للماء والأكسجين للحياة مثلا، وبذا لا تغدو تلك الحزمة من الأفكار محايثة للتاريخ البشري في حقبة معينة من تطوره، وإنما أزلية سرمدية، عادية طبيعية بالتالي.

سنجد أن نظاما كالنظام المصري، إذ يتجاوز سقف العنف المعتاد تقليديا، إنما يوسع باستمرار رقعة "الطبيعي" و"العادي" لتشمل الاختفاء القسري والانتهاكات البدنية وكشوف العذرية والاعتقالات بالجملة وقتل المعارضين خنقا في سيارات الترحيلات والتصفيات الجسدية، وقد يكون بعض الناس أو كثيرٌ منهم قد راعه في لحظة ما أو في البداية ذلك العنف غير المعتاد، إلا أنهم مع مرور الوقت ألفوه، صار طبيعيا وعاديا، فالتهوا بمعايشهم ولم يعودوا يلتفتون إلى تلك الظواهر الطبيعية والعادية، فالثورة المضادة لا تأخذ على عاتقها مجرد الاكتفاء بخنق المجال العام والترويع، وإنما تخلق إنسانا ومواطنا من نوعية خاصة، منفردا منفصلا معزولا غير اجتماعي، لا يكترث البتة بحال الآخرين ومصائبهم ومصائرهم، همه الوحيد الفرار ببدنه من محرقة الإهانة وببطنه من الجوع، لا هم له سوى الاستمرار من يوم لآخر، بلا أفق. إنسان أكثر انسلاخا من كل تلك القيم التي تفصل الفصيلة البشرية عن الحيوانات الدنيا، تُجرعه الذل والخوف حتى يألفه ويستسيغه، ومن ثم ربما لن يستطيع الحياة بدونه، فتصبح بذلك التشوهات النفسية طبيعية وعادية. 

بالتالي فإن التوحش في بلادنا ليس مجرد نتيجة هزيمة الثورات في إحداث طفرة تعبر بالمجتمع وانغلاق الطرق، بحيث لا يتبقى للناس سوى النهش في بعضهم بعضا، وإنما ينتج أيضا عن سلوك النظام وسياساته الذي يمارس خلق التوحش عن طريق القمع وإهدار كل القيم والمعاني الإنسانية بمنهجية والتزام صارمين.

لئن كانت مفاهيم الطبقة الحاكمة وأفكارها دائما مهيمنة فإن رأس المال والإمبريالية كانا دائما "مُطبعِين" بالمقدار نفسه، فليس من الغريب أو المدهش على الإطلاق أن تهرول أنظمتنا نحو التطبيع، بل هو الامتداد المنطقي الوحيد للخط على استقامته، فكلها يدور في فلك أمريكا بشكل أو بآخر، وبالتالي فليس ثمة تناقض حقيقي وجوهري من حيث الانحياز بينها وبين الكيان الصهيوني، فالأفكار والثوابت عن حق العودة والأرض لم تعد تعني شيئا للزمر الحاكمة، ولا تخدم سوى أهداف إعلامية كإيجاد عدو تلقى على عاتقه تهم المؤامرات لتبرير الفشل، بعد أن تم "تسليع" وابتذال تلك الثوابت والأفكار إلى جانب الكرامة في أسواق النخاسة والعهر والمنفعة السياسية.

نحن نعيش حالة تطبيع تفرضها علينا الأنظمة، فالثورة المضادة سجنٌ كبير، تشويهٌ وإفسادٌ مذهبه وغايته، يطَّبِع العنف والقمع والذل والاستغلال وغياب الرؤية والارتهان للخارج والتمزق والدم الرخيص، وما التطبيع مع إسرائيل سوى وجه آخر له، وعليه فأنا على قناعة بأنه والظرف كذلك، يضحى تفكيك سردية الأنظمة و"نقد العادي" بإظهار عواره وقبحه وطابعه الزمني المؤقت وسحقه واستغلاله للناس واعتدائه على حقوقهم، لا طبيعيته ولا عاديته فرضا نظريا شأنه في ذلك شأن محاولات بناء التنظيم الثوري القادر على الحشد وإحداث التغيير، ذلك التغيير الذي يتحتم أن يكون شاملا وعميقا ليضرب كل أوجه ذلك التطبيع الشائه.

عن صحيفة القدس العربي

0
التعليقات (0)