قضايا وآراء

في ذكرى المسيري: المرأة وأسئلة الجدوى والمعنى

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
8 تشرين الأول/ أكتوبر يوم يذكره جيدا أصدقاء وتلاميذ الدكتور عبد الوهاب المسيري، فهو اليوم الذي ولد فيه عام 1938، بميلاد المسيري زاد أهل مصر واحدا، وزاد العالم الإسلامي زيادة لا تحصى فكرا وخلقا وتجربة ومثالا. وبذا، يكون الاثنين القادم هو العام الــ80 في عمر الرجل الذي جاء وعبر وترك أبدع الأثر، كما يقولون. عن نفسي، لا أستطيع ولا أقدر على الوفاء بما كان منه لي، لكني آليت على نفسي أن لا تأتي ذكرى ميلاده أو ذكرى انتقاله إلى رحمة ربه إلا وأتواصل مع أصدقائه وتلاميذه ومريديه. وإن استطعت، كتب سطورا عساها تكون شعاعا من قبسه الذي يزيد ويفيض وأبدا لا يغيض. المسيري قال ومضى، وما قاله احتل مكانا واسعا في الفكر الإسلامي والإنساني، وستأتي الأزمنة المقبلة لتعرفه وتعرف به بما يكافئ ما قدمه وتركه خلفه من تلال الحقائق والأفكار. وستقول له دنيا البشر في كل وقت وحين "عليك أن تعلو عليك"، كما قال محمود درويش في رثاء معين بسيسو. سنسمعه اليوم وهو يتحدث عن موضوع هام من موضوعات الفكر الإنساني، وهو موضوع يكاد يكون حديثا بعض الشيء في فضاء الفكر والأخلاق، لكنه تضخم وتفلطح في العقود الأخيرة، وأصبح من معمعات السجالات المعاصرة في الإعلام والثقافة والسينما والسياسة والأمن والمتعة والتجارة والحرب والسلم والأديان والدساتير والأزياء والمهرجانات والجوائز.. ومن يريد المزيد فليزد! إنه موضوع المرأة/ الأنثى.

وما كان للعقل الضخم (الدكتور المسيري) أن يترك هذا الموضوع دون أن يسكب فيه من مداده الفكرى والفلسفي الكثير، وما هو أكثر من الكثير، فأصدر في ذلك كتابا من أهم الكتب التي تناولت هذه المسألة (قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى)، وجملة التمركز حول الأنثى من الجمل التي نحتها الدكتور المسيري؛ كغيرها من الجمل التي تعد من أدق التعبيرات والتوصيفات الفكرية والفلسفية في المكتبة العربية.

سيظل كتاب الدكتور المسيري هذا يٌقرأ قراءة مرجعية لدى الباحثين والدارسين وعموم المثقفين، وسيكون هاما هنا أن نذكر بأن الدكتور المسيري مع العلامة على عزت بيجوفيتش (المسيري اتخذه أستاذا له) يعتبران أهم ناقدين للحضارة الغربية من المنظور الفكري/ الإنساني؛ نقدا قائما على قواعد إسلامية أمينة وبالغة القوة والتماسك، ناهيك عن فهم عميق الأغوار لمكونات تلك الحضارة التي تعتبر نفسها مركزية في الفكر الإنساني عبر رحلة الإنسانية الطويلة، هذه المركزية ما عادت كذلك لا في ما يتعلق بموضوع المرأة ولا في غير موضوع المرأة..

الدكتور المسيري في كتابه يفرق بين حركة "تحرير المرأة" وحركة "التمركز حول المرأة"، ويرى أن الأولى تنطلق من مفهوم الإنسانية المشتركة "الواحدية الإنسانية"، بينما الثانية تنطلق من فكرة الصراع المستمر ومن فكرة مادية الإنسان، متحررة من التاريخ، منفتحة على التجريب المستمر، رافضة لمرجعية التاريخ الإنساني، إذ ترى فيه ظلما على الأنثى.

مفهوم "التمركز حول الأنثى" هو وليد خالص للثقافة الغربية التي تعامل الإنسان كمادة يمكن إعادة صياغتها على نحو جديد، مختلف، مرجعيته الوحيدة هو التغير والتجريب، لذا تدافع هذه الثقافة عن "الشواذ جنسيا وحقوق الحيوانات والعراة والمخدرات وفقدان الوعي وحق الانتحار، وعن كل ما يطرأ وما لا يطرأ على بال (هذه الثقافة تركز على حقوق الفرد لا المجتمع وكأن هذا الفرد كائن بسيط غير اجتماعي منقطع عن أي سياق تاريخي لا تربطه علاقات بأسرة أو مجتمع أو دولة أو مرجعية تاريخية أو أخلافية). فما الإنسان سوى حزمة من الحاجات "المادية" البسيطة المجردة التي تحددها الاحتكارات وشركات الإعلانات والأزياء وصناعات اللذة والإباحية.

الفرق بين الحركتين - كما يقول المسيري - أن حركة تحرير المرأة تدافع عن حقوق المرأة في إطار الإنسانية المشتركة وانتماء الإنسان لمجتمعه وحضارته باستقلال عن المادة، وتعامل المرأة ككائن اجتماعي ينشد العدالة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، كما أنها تدرك الفوارق بين الجنسين وتسعى إلى عدم تحول هذه الفوارق إلى مبررات ظلم اجتماعي، في حين أن حركة التمركز حول الأنثى تنكر وجود هذه الفوارق أصلا، كما تقدم خطابا يوحي بأنه لا توجد إنسانية مشتركة بين الرجل والمرأة، حيث المرأة متمركزة حول ذاتها، تشير إلى ذاتها، مكتفية بذاتها ودائما تود اكتشاف ذاتها وتحقيقها خارج أي إطار اجتماعي.. هي في حالة صراع كوني أزلي مع الرجل المتمركز حول ذاته. القضية هنا ليست دفاعا عن حقوق اجتماعية وسياسية، وليست طلبا للعدالة، وإنما تكريسا لفكرة الصراع بين جنسين متمركزين على الذات. وفي إطار هذه الرؤية، تبحث دعوات التمركز على الأنثى عن تاريخ الأنثى، وتذهب إلى وجود معارك في الزمن القديم تحولت المجتمعات على أثرها من مجتمعات أمومية أنثوية ونظام اجتماعي أنثوي؛ إلى مجتمعات بطريركية ذكورية، وتذهب إلى أن التاريخ أصبح يسرد من وجهة نظر ذكورية يقصي الإناث.

وهكذا تبرز الدعوة إلى نبذ هذا التاريخ والبدء بالتجريب المستمر وإعادة صياغة كل شيء: التاريخ واللغة والرموز، بل الطبيعة البشرية ذاتها، كما تحققت عبر التاريخ وكما تبدت في مؤسسات تاريخية. ويرى المسيري أن هذا لا يعتبر برنامجا إصلاحيا، وإنما سطحيا لا يحل أي مشكلة. كل ما في الأمر هو نظرة واحدية متمركزة على الأنثى؛ تريد التشديد على استقلال المرأة عن الرجل وعن أي سياق اجتماعي تاريخي، وهو الأمر الذي وصل في تطرفه إلى تمجيد "السحاق"، حيث المرأة لا تحتاج إلى الرجل، مستبعدة هذا الشريك في الإنسانية المشتركة.

المسيري يرى في كل ذلك أن الأجدى والأصلح هو البدء من "حقوق الأسرة"، ثم الانطلاق منها لحقوق الأفراد المنتمين لهذه الأسرة، ويدعو إلى إعادة الاعتبار لدور المرأة في تربية الأطفال بوصفة وظيفة إنسانية عالية القيمة، دون النظر إلى الاعتبارات المادية الصرفة. كما يؤكد ضرورة النظر إلى التجربة الاجتماعية الغربية بعمق وقراءة الدراسات والمؤشرات التي توضح الأثر السيئ لابتعاد المرأة عن الأسرة في تلك المجتمعات ماديا ونفسيا واجتماعيا. وهو بالمناسبة لا يدعو إلى حرمان المرأة من العمل، وإنما وفق السياقات الموضوعية المستمدة من نظرتنا نحن ووفق ما نمتلك من رؤية ومرجعية.

رحم الله عبد الوهاب المسيري على ما قدمه من رؤية واسعة للإسلام، وقيمه وشعائره وميراثه الإنساني العظيم.
التعليقات (0)