كتاب عربي 21

عشماوي: قلب الظلام

جمال الجمل
1300x600
1300x600
(1)
القصة متكررة والأسباب معروفة، لكننا نحب الثمار أكثر من البذور وأكثر من الجذور.. تبكي أم خالد الإسلامبولي، فيقرر الابن المحبب قتل رئيس الجمهورية. كانت دمعة القهر في إجازة العيد حزنا على اعتقال ابنها شوقي كافية لكي يمسح خالد دموع أمه بزخات قاتلة من الرصاص في جسد السجان.

ذلك السجان هو المحرك الأول للقتل السياسي، عذب وأهان سيد قطب حتى قرر هجر الأدب والنقد، وتفرغ لاستيرد أسلحة أبو الأعلى المودوي من الهند ليحارب بها جلاده، فانطلقت لعنة العنف ككرة الاسكواش بين المضرب والجدار.

الظاهرة ليست مصرية ولا عربية وفقط، الظاهرة إنسانية. فمن طالع منكم قصة "هانيبال ليكتر"، آكل لحوم البشر، يعرف أنه ذاق العنف فمارسه.. تذوق الجنود القتلة لحم أخته الصغيرة قبل أن يتذوق هو لحومهم، هكذا يبدأ العنف دائماً: إما أن يكون العنيف ضحية أو شاهداً مقربا من ضحية. وأظنكم تذكرون مقالاتي هنا عن "لذة اشتهاء العنف"، والتي تناولت سيرة المواطن الأمريكي "مارفن هيمير"، الميكانيكي الريفي الذي صنع دبابة ليحطم بها بيوت المسؤولين في بلدته؛ احتجاجا على فسادهم وتدميرهم لمشروع حياته، ثم انتحر برصاصة واحدة من غير أن يقتل أحدا إلا نفسه.

(2)
كل إرهابي هو "مارفن هيمير" و"هانيبال ليكتر" قبل أن تتطور الأدوات وتتفرع المصائر وتتبلد المشاعر، بحيث لا يتبقى من الإنسان إلا الوحش الذي صنعه "السجان". والسجان هنا مجرد تعبير رمزي عن كل قهر أو ظلم أو إهانة لكرامة إنسان، بحيث يفضل أن يعيش مورداً للموت بعد أن فقد مفردات الحياة. ولهذا، لا أريد الكتابة الآن عن الضابط المصري هشام عشماوي؛ لأن الكتابة الباحثة عن الجذور والبذور لا مكان لها في ثنائية الاستقطاب الحاد: إرهابي أم جيفارا؟

(3)
نحن نعيش في لحظة موتورة من عمر الإنسانية، ليس بسبب الهيولة وازدواجية المعايير وفقط، ولكن بسبب "الافتتان".. كل شيء تحول إلى فتنة يمكن تأويلها لتبرير كل فعل. اللحظة مسرطنة تماماً، والإنسانية باتت تتبنى خلايا متصارعة ضد بعضها البعض، وأي علاج يهتم بالثمار على حساب البذور والجذور لن يأتي بخير، كما أن التوقف عند الجذور دون وعي بنوعية الثمار لن يفيد البشرية بشيء، لهذا أنوه إلى ضرورة الربط بين الجذور والثمار. علينا مثلاً أن نعرف كيف كان هشام عشماوي؟ وكيف كانت حياته؟ وعلينا أيضاً أن نعرف لماذا تحول؟.. لماذا غادر حياته ومساره ليصنع حياة من الموت ويأخذ مساراً معاكساً لما كان ولما كانت عليه حياته الأولى كضابط صاعقة؟

يكفيني في هذا ما قاله قريب لهشام عشماوي إنه تغير تماماً منذ العام 2006، عندما اعتقلوا صديقا له وعذبوه وأهانوا إنسانيته حتى مات في السجن. وأكد الشخص القريب من عشماوي لوكالة رويترز أن هشام الضابط وهشام الإنسان تحول منذ تلك اللحظة إلى شخص آخر، وبدأ في تحريض زملائه على عصيان أي أمر متعسف من وجهة نظره، وبدأ يجادل ويعترض، وتمت إحالته لمحكمة عسكرية. وبعد سنوات قليلة تم فصله نهائيا من الجيش، ليؤسس جيشه الخاص على طريقة العقيد كيرتز في فيلم "القيامة الآن" المأخوذ عن رواية "قلب الظلام" لجوزيف كونراد.

(4)
قصة التحول إلى النقيض مخيفة، خاصة لو كان النقيض متوحشاً وبعيداً عن الإنسانية. والمؤسف أنني شاهدت هذه القصة المكررة كثيراً في الأفلام، وقرأت عنها في التاريخ، وتعرفت على نماذج من أطرافها في الحياة.. ومعظمها يتفق على "تيمة" واحدة: الظلم الذي يدفع الضحية للظلم والقسوة.. العنف الذي يبرر المزيد من العنف.. القهر الذي يصنع الوحش بعد أن يتساوى عنده الموت بالحياة، لهذا توقفت متعمداً عن مطالعة تفاصيل الأخبار المتعلقة بجريمة قتل الكاتب السعودي جمال خاشقجي، فالمعلومات الأولية كانت كفيلة بفتح حفرة سوداء مخيفة داخل روحي.. لم يكن خوفاً؛ لأن هذه الحفرة تبتلع كل شيء حتى الخوف، لم يكن بداخلي غير فراغ كئيب وهاوية ليس لها قرار، جعلت الكلام مجرد صدى موحش، وسلبت منه المعنى والجدوى، فماذا تفعل الكلمات في الفراغ؟ وماذا يصنع الكاتب إذا علت أصوات المناشير الكهربائية وطرقعة الرصاص وجعجعة الكتائب الإعلامية وطنطنات التصريحات الرسمية الكاذبة المدعومة بالخسة والتضليل ومليارات الدولارات؟

(5)
الحفرة السوداء التي تبتلع روحي تحرضني على اعتزال الكتابة والكلام، ليس هروباً من محنة، فنحن وصلنا بالفعل لأقسى أنواع المحن، لكنني أسعى لتجنب السقوط في رد الفعل. أحاول جاهدا ألا أصير وحشاً أو أتحول إلى صدى.. مجرد رد فعل للخبل الذي يخرب روح العالم، لهذا لا أطيق أن أتمادى في مجاراة الحوادث الحقيرة التي تلوث وجه الإنسانية. لا أطيق أن أصبح طرفا في معادلة الجلاد والضحية.. لا أريد أن أرد على الإهانات بالعنف، ولا على العنف بالعنف.. أريد أن أعثر على روحي، وأردم الحفرة السوداء التي تبتلع كل المعاني النبيلة والجميلة في حياتنا.

لا أعرف كيف سيكون قراري، كل ما أعرفه وأتمناه ألا أتحول إلى شخص آخر يعيش في قلب الظلام ويعتاد عليه، ويبرر ذلك لنفسه قبل أن يبرره للآخرين.

[email protected]
التعليقات (2)
Ahmed
الجمعة، 12-10-2018 06:30 م
شكرا استاذ جمال علي المقال الرائع والتحليل العميق الذي لا يخلو من جمال الادب , فقط اسمح لي ان اعترض علي تصوير كتابات الاستاذ سيد قطب بانها تدعو للعنف , فهذا مخالف للحقيقة وظلم لرجل اديب رائع ورقيق الحس , وادعو حضرتك لقراءة كتبه حتي الاخيرة لتتاكد انه رغم الظلم ااذي مورس ضده وضد اسرته ومحبيه الا انه لم يدعو لانتقام , وان كان معذورا لو دعا لذلك , ولكنه ظل متزنا يدعو لمبادئه التي امن ان بها نهضة امته ورفعتها بين الامم مرة اخري اشكر لك مقالك الرائع استاذ جمال
عبدالله العثامنه
الخميس، 11-10-2018 07:08 ص
عشماوي: استحل القتل؛ شنقوه بحباله.