مقالات مختارة

6 أكتوبر 73: وجوه الحدث الأخرى وكتابة التاريخ من الهامش

يحيى مصطفى كامل
1300x600
1300x600

مر بنا يوم السادس من تشرين الأول/أكتوبر مرة أخرى، كما مرّ من قبل، منذ بدء الخليقة، وكما سيمر مادامت الأرض. مر بالكوكب كله ببلدانه جميعا إلا أنه في منطقتنا، وفي مصر تحديدا، احُتفي به كما لو كان يوما أسطوريا، يوم الخلق والنشأة الأولى، احتفي باليوم كأن حربا لم تُخض لا قبله ولا بعده، وكأن تاريخ مصر العسكري ينحصر لا في تلك المعركة، بل في ذلك اليوم بالتحديد؛ احتفي به كما يليق بيوم مؤسس، وهو ذلك بالفعل بالنسبة للنظام الحالي، ولست أدري أهو مجرد انطباع تولد لديّ بأن الاحتفاء كان مبالغا فيه هذا العام من قبل الإعلام وبعض الناس، خاصة أنني صرت أرى في بعض الناس الآخر مللا متناميا من تكرار احتفال سنوي (يغفل مجمل الأحداث متعمدا) بيوم لم يكن يتباعد مع كر السنين، حتى لينطفئ ألقه الذي كان يوما، لاسيما في ظل ما نعيشه من سحق للمجال العام وقمع وإرهاب منهجي يمارسه النظام، وما تكشف من حقائق عبر شهادات ووثائق في الخارج عن حقيقة ما حدث.


أنا أيضا نشأت في جو مشبع بتقديس ذلك “الانتصار العظيم”، ثم كان أن بدأت أقرأ ما كُتب عنه، فتزعزعت تلك الثقة وتواضع الزهو حتى تصادف أن رأيت يوما ما، في أثناء سفرة الكيلو 101، تلك النقطة الشهيرة حيث عقدت أول المفاوضات، وراعني قربها من القاهرة، فحلت الشكوك والمرارة مكان الاعتزاز الذي كان.


بعد ذلك بفترة قليلة استوقفني تعليق شاب ألماني على مصير ألمانيا في الحرب العالمية الثانية حين قال لي: “هل تعلم أنه هناك تحليلات عديدة، تعتبر أن ألمانيا قد ربحت الحرب العالمية الثانية اقتصاديا؟”. لست أملك إجابة على ذلك ولا يهمني، بيد أن ذلك لفت انتباهي إلى كون أي حدث تاريخي، مهما بدت نتائجه الأولية صارخة دامغة، سواء بالهزيمة أو النصر، يحتمل قراءات عدة وأن للحقيقة أو الحدث التاريخي وجوها ومناحي عدة.


للأمانة فإن ذلك ليس بعيدا عنا على الإطلاق، بل نحن أساتذةٌ فيه ولعلنا سباقون، فقد احتفلنا في حزيران/يونيو 67 برجوع عبد الناصر عن استقالته، بينما الجيش يفر جنوده وضباطه كلٌ على حدة كيفما اتفق، هائما على وجهه في الصحراء المحرقة وعتادنا (أو ما تبقى منه) مبعثرٌ لكي تلتقطه إسرائيل لاحقا وتعرضه، وعمّدنا “الهزيمة النكراء” نكسة لكي لا يُصدم الجمهور كون الكلمة ثقيلة موجعة.


أجل قد يكون الحدث واحدا، إلا أن جوانب عديدة له وتفاصيل متعددة قد تبرز مع الأيام يقتضي معها إعادة التقييم، ناهيك بالطبع عن التحليل من المنظور الطبقي والاجتماعي، الذي يربط الحدث بالانحيازات والمصالح الاجتماعية، خاصة في كيفية استغلال الحدث وتوظيفه، وبالتالي ما يتمخض عنه من نتائج، ومن يحصد المكاسب حتى لتتكدس في رصيده. ليس ثمة قولٌ فصل في التاريخ، بل هناك دائما المجال للقراءة وإعادة القراءة. أما ما دأبنا عليه في مصر من إعادة ترديد التسابيح بذكرى “الانتصار المجيد” و”ملحمة العبور، كأذكار الدراويش، فلم يعد يغدو اللغو والهراء، إلا أنه ليس اعتباطيا ولا محض مصادفة أو انسياق مع المشاعر الوطنية الساذجة بنت الحلال العفوية، بل هي عملٌ متعمدٌ ممنهج. لقد تسيدت رواية انتصار العبور الملحمي، فاحتلت المتن من سردية النظام، كونها أُريد لها منذ البداية أن تشكل القاعدة وحجر الأساس، الذي رمم عليه السادات موقع النظام المتضعضع بفعل هزيمة 67 وأسس مشروعيته الخاصة، بما يتيح له أن يعيد هيكلة المجتمع متحللا شيئا فشيئا من الانحياز نحو الطبقات الشعبية الأفقر، واستكمال ما أُطلق عليه “الانفتاح الخجول” في آخر أيام عبد الناصر بانفتاح السداح مداح الذي فتح بوابات فيضانه.


ليس ثمة قولٌ فصل في التاريخ، بل هناك دائما المجال للقراءة وإعادة القراءة فرواية النصر المبين الأسطوري هي رواية النظام إذن، وقد تشبث بها الكثيرون من الناس، ففي ليل الفقر المتزايد والإهانات المتعددة في الشارع والبيت ومخفر الشرطة ومكان العمل، في مصر والخليج، يُفتقد انتصارٌ أبلج يشعر الناس بشيء من الكرامة والتحقق، حتى لو كانت على الصعيد الوطني فحسب، فالناس كثيرا ما خلقت الأسطورة بدورها واشترت الأوهام للهرب من واقعها البائس.


لأسباب مشابهة يتمسح السيسي بهذه الأسطورة، فهو بمعان كثيرة وارثها، فالرجل جاء من المؤسسة نفسها التي جاء منها الرؤساء السابقون، وقد احتاجت صورتها المتسخة الملطخة بدماء الشهداء إبان كانون الثاني/يناير وما أعقبه من ثورة مضادة ومعاني الفشل في سيناء، إلى ما يرممها ويجملها، كما أنه بصورة شخصية (أي السيسي) عاطلٌ من أي إنجاز يذكر، لم يخض حربا ذات شأن، الأمر الذي لم يمنع من ترقيه لأعلى الرتب العسكرية.


أجل تسيدت رواية النظام لأحداث الحرب وسرديته تدعمها آلةٌ إعلامية كانت حتى عهد قريب مقصورة عليه، بيد أن رواية أخرى ممكنة، أكثر قتامة وعتمة، وقد أشرت إلى طرف منها، بمقتضى هذه الرواية فإن الحرب لم تنته في السادس من تشرين الأول/أكتوبر، ولم تقف عند “العبور المجيد” وإنما طالت ما يقارب الثلاثة أسابيع أخرى، وانتهت بجيش ثالث محاصر تماما وقوات إسرائيلية على مشارف القاهرة، رغم المقاومة البطولية الشرسة، بمقتضاها ارتكب السادات أخطاء عسكرية كارثية وقدّم تنازلات مذهلة في كل مراحل التفاوض، بمقتضاها فإن السادات من الأساس لم يكن لديه أي بدائل تذكر بعد محاولات لتسوية القضية مقابل تنازلات “تسكت” شعبه وتسد أفواه معارضيه، فلم يجد محيصا عن الحرب لتحريك عملية التفاوض من أجل تلك التسوية، لا لأن الظرف الموضوعي على الأرض من فارق القوة والدعم إلخ، لم يكن ليسمح بغير ذلك فحسب، ولكن لأن القضية المحورية، أي الصراع العربي الإسرائيلي وما يعبر عنه من تناقض رئيسي بين قوى التحرر والإمبريالية الرأسمالية، لم تكن تعنيه في شيء، لكن حتمية خوض الحرب حاصرته فخاضها مدركا أن بقاءه وبقاء النظام مشروطٌ وجوديا بأداء مشرف، وإن كان محدودا يمكنه من تصفية القضية، والالتفات نحو مشروعه الرئيسي: الارتماء في حضن الرأسماليات الغربية، وعلى رأسها أمريكا، والالتفاف على أي مكاسب يعتبرها هو والطبقة التي يمثلها تنازلات للجماهير الشعبية، فالشاهد أن تلك الطبقة الجديدة الحاكمة والمستفيدة الآخذة في التشكل منذ أيام عبد الناصر، التي تضم شريحة من الضباط والبيروقراطية مع بورجوازية طفيلية، اكتسبت ثقة في نفسها تحديدا، بسبب هزيمة 67 وما حظيت به من دعم الرجعية العربية، تلك الطبقة كانت قد ضاقت ذرعا بحالة الحرب الطويلة والحدود الموضوعة على حركتها الاقتصادية، وبالأخص تدفق رأس المال الغربي والخليجي. ومن اللازم في هذا السياق تأكيد كون هذه الطبقة ليس لديها تناقض مع إسرائيل، بل العكس صحيح. من أجل هؤلاء وطبقتهم خيضت الحرب، لتحرر حركتهم لا الأرض، وليس من عجب في وصولنا الآن للتفريط في  الأرض التي بذلت لها كل هذه الدماء.


للأسف الشديد، أكتبها بألم، وفقا للسردية المغايرة، فإن مئات الألوف من الجنود التي حاربت في 73 خاضت حربا دامية ضد مصالحها، حاربت لتنتج ظروفا تساعد على استكمال تخلق تلك الطبقة من المنتفعين التي تعيش وتقتات على حساب تضحياتها، لكي “تشيد قصورها على المزارع” كما قال أحمد فؤاد نجم.


تلك سرديةٌ أخرى، مغايرة، مناقضة، تأتي من الهامش المقموع المسلوب. آن لنا أن نطرح الأسئلة، العديد منها في العمق والأساس، لكي نعيد كتابة تاريخنا نحن لا تاريخ السلطة وطبقتها، ولعل أول الأسئلة التي يتعين طرحها هي: متى يُفرج عن الوثائق المتعلقة بهذه الحرب من جانبنا؟ لقد كشفت أمريكا وحتى إسرائيل، فهل هما أقل حرصا أو وعيا بالدواعي الأمنية؟


لقد سمعنا وحفظنا وانصعنا للسردية الوحيدة طويلا، في بلدان الدين الأوحد والمذهب الأوحد والرئيس الأوحد المفدى والحزب الواحد، رددنا مقولات سارقينا وقامعينا، أعناهم على أنفسنا، لكن الآن، وبعد يناير واستعدادا للقلاقل المقبلة لا محالة، فقد آن لنا أن نطرح لا رؤانا فحسب، وإنما تاريخنا الحقيقي من منظورنا، من الهامش الذي نفتنا إليه الأنظمة.

 

عن صحيفة القدس العربي

0
التعليقات (0)