قضايا وآراء

"انتفاضة" خاشقجي.. مركزها الغرب وهذه دلالاتها

خلدون محمد
1300x600
1300x600
منذ وقوع حادثة قتل الصحفي جمال خاشقجي، هناك عناصر عديدة متظافرة آخذة في التشكل والدحرجة، شبيهة إلى حد كبير بتلك التي وسمت حوادث إسقاط الأنظمة في دول الربيع العربي في الشهور الأولى من عام 2011. فقد وضعت الحادثة، وبتتابع حلقاتها ودرامية تسلسلها، النظام السعودي تحت مجهر الاعلام ودوائر صنع السياسة والرأي العام العالمي.

إن حمّى النقد المرير واللاذع لا نجده هذه المرة متمثلا بمظاهرات مليونية في ساحات مدن الحجاز ونجد وعسير والإحساء، فهي مدن مغلوبة على أمرها، وتبدو قصة قهرها هي موضع تسليط الأضواء على حجم الوحشية الصادمة التي كشفت عنها حادثة خاشقجي.

ما نراه الآن انتفاضة عارمة وعاتية مركزها "الديمقراطيات الغربية"، وميادينها صفحات الجرائد وشاشات التلفزة ومواقع التواصل الاجتماعي، وقاعات البرلمانات الغربية، وهي زاحفة ومتمددة، وصولا إلى غرف صنع القرار لدى السلطات التنفيذية والحكومات.

ما نلاحظه هنا، أن كل موقف أو بيان جديد للنظام السعودي حول الحادثة أصبح فاقدا للمصداقية، وهو بالتأكيد موقف مناقض ومكذّب لسابقه، الأمر الذي يتسبب في زيادة الشحن وعتو الموجة المعترضة والعاصفة بالنظام السعودي والداعية إلى إيقاع العقوبات بحق المتنفذ الأول فيه (محمد بن سلمان) وزيادة المطالبة بالتخلص منه والإطاحة به. وحتى في حال نجحت هذه الموجة في الإطاحة بمحمد بن سلمان، فلا نتوقع أن تتوقف عند هذا، فطبيعة الدحرجة الحاصلة الآن عملت على تعرية وتجويف شرعية النظام السعودي في الخارج، وهي أصلا أساس الشرعية لهذا النظام، فشرعيته الداخلية مثل جميع الأنظمة الاستبدادية الفاسدة، لفظت مع سياسات محمد بن سلمان الصبيانية آخر أنفاسها العالقة.

البعض في بلادنا لا يزال يجادل حول ذلك الغرب الاستعماري القديم الذي قهرنا وتآمر علينا ونهب ثرواتنا، وأن انتفاضته الراهنة ضد النظام السعودي لا تخلو من "مؤامرة" أو خضوعها لاعتبارات نفعية أو مصلحية، وكأن غرب الأمس هو نفسه القائم الآن بلحمه وشحمه.. ولعل مثل هذه الحجة شبيهة بما يُرمى به الربيع العربي؛ من أن نزول الملايين إلى الشوارع كان مجرد "مؤامرة".. الحقيقة، إن هذا التحليل رغائبي تبسيطي، خاصة عندما تكون القرائن والمعطيات لا تؤاتيه وتخالفه، وربما يريح صاحبه من عناء النظر والتفكير، ونراه يعكس كسلا ذهنيا طالما كان سببا في قصور فهمنا. وسنتذكر هنا ما كان يعيبه إدوارد سعيد على القيادة الفلسطينية أساسا وعلى بقية القيادات العربية عموما، أعني درجة جهلها وقلة حيلتها، وانعدام محاولتها لفهم آليات صنع السياسة في الولايات المتحدة.

في اعتقادنا أنه بعد 11 أيلول/ سبتمبر 2001 وحربي أفغانستان والعراق، نجد أن سياسة الولايات المتحدة تقوم على الانكفاء والانسحاب من العالم (خاصة من منطقتنا)، وليس مزيدا من الاشتباك فيه.. ولربما هذا الانسحاب بعدة خطوات يذكّرنا بانسحاب بريطانيا أو فرنسا وتصفية أملاكهما الاستعمارية بعد الحرب العالمية الثانية، التي كان آخر بقاياها (في منطقتنا - إمارات الخليج) حتى مطلع سبعينيات القرن العشرين. لكن من المؤكد أن قبضتهما الاستعمارية تراخت، وإن كانت الولايات المتحدة التي حلت مكانهما في بلادنا لجأت إلى أساليب هيمنة من نوع آخر، غير أنها وصلت أيضا إلى نهايتها في أواخر عهد بوش الابن، وترجمتها لاحقا سياسات أوباما التي لم تعجب في البداية تلك الأنظمة المستبدة؛ معروفة الروابط بالمركز الاستعماري طيلة تاريخها الحديث، خاصة تلك التي كانت متغطية بالأمريكان، كنظام مبارك على وجه التحديد. كما لم تعجب سياسة أوباما الانسحابية لاحقا، الشعوب وحركاتها الثورية التي قهرتها الثورة المضادة. ونعتقد أن أوباما - سواء قصد أم لم يقصد - صنع خيرا عندما نفض يده منّا ومن عُقدنا ليترك المنطقة العربية، بخاصة الشعوب تخوض معركة تقرير مصيرها لأول مرة في تاريخها الحديث منذ الغزوة النابليونية. وما نراه الآن من حروب أهلية عربية طاحنة، ورغم مأساويته و"كارثيته"، هو ممر إجباري لميلاد! والشيء المؤكد أن القبضة الأمريكية القديمة - فضلا عن الغربية - آخذة في التراخي، وأن هناك مرحلة جديدة آخذة في التشكل.

وما نراه من انتفاضة محمومة في الديمقراطيات الغربية ضد محمد بن سلمان له أسبابه المتعلقة بالغرب، ربما أكثر مما هو متعلق بنا. والنقاش السياسي الدائر عندهم حول المنافع والمصالح والأخلاق والقيم هو نقاش مثير لعالم آخذ في التشكّل، تعتبر منطقتنا بأحداثها الدرامية قلبه، والأهم وعيه الإنساني الأشد استحواذا.
التعليقات (0)