كتاب عربي 21

مشاركون في "الشجار"

طارق أوشن
1300x600
1300x600

كلما أحس المسؤولون السعوديون بالضغط يشتد عليهم، سواء بالتلويح بتحقيق دولي أو بقرب فرض العقوبات على المملكة، يخرج علينا ممثل النيابة العامة السعودية ببيان إنشائي لا يعدو أن يكون مجرد تركيب للتسريبات الصحفية، بعد أن تنال الأبواق المأجورة من قناة "الجزيرة" والقنوات "الإخونجية" ووسائل الإعلام الدولية بدعوى تبنيها للإشاعات المغرضة ضد المملكة وقادتها. 

بيانات النيابة السعودية تشي بأن ما تقدمه هو نتائج لتحقيقات داخلية لكن واقع الحال يكذب ذلك جملة وتفصيلا، حيث أنها لم تشمل شيئا جديدا. الجريمة النكراء، التي شهدتها قنصلية البلاد بإسطنبول فصولها المرعبة، لا تزال في رأي السعودية مجرد "عراك وشجار وتقييد وحقن أدى إلى الوفاة".

 

اقرأ أيضا: الرياض تكشف تفاصيل واتهامات بقضية قتل خاشقجي

يروى أن جريدة من جرائد بلدان الجوار الروسي، اختصرت خبر اندلاع الثورة البلشفية، التي غيرت شكل النظام في روسيا القيصرية ومعه كثيرا من أنظمة العالم، في جملة وحيدة مفادها "وقعت مشاجرة في موسكو". بعدها بقرن كامل، لم تجد السلطات السعودية غير ذات الجملة محاولة إقناع العالم بها، والحال أن المكلفين بقراءة البيانات السعودية يجدون كثيرا من العناء في إقناع النفس قبل الآخرين. وحدهم محامو الشياطين مستعدون للتسليم بـ "الحقيقة" السعودية والترويج لها من الذباب الإلكتروني إلى رؤساء الدول وحاشياتهم.

مطلب التدويل

لم يكن مستغربا أن تتواصل في اليومين الأخيرين الدعوات إلى تحويل القضية للتحقيق الدولي سواء على لسان وزير الخارجية التركي الذي أعتبره "شرطا" أو منظمة هيومان رايتس ووتش وغيرهما بالنظر إلى التسويف الذي تقابل به المطالبات باتخاذ إجراءات واضحة ضد السعودية وتحديد الجناة الحقيقيين. 

لم يتبق لرجب طيب أردوغان غير التصريح باسم الفاعل بعد أن تعب من التلميح لكن المصالح الإقتصادية والعسكرية تبقى فوق كل الاعتبارات. هيومان رايتس طالبت برفض محاولات تبرئة السعودية من جريمة قتل خاشقجي. لكن البيان الأخير للنيابة العامة تعدى تبرئة البلد ومعه ولي العهد إلى البحث عن مخارج لنائب رئيس الإستخبارات والمستشار الملكي باعتبارهما غير مسؤولين على القتل المباشر للمغدور و"تجزئة" جسده بالفعل أو الأمر.

يبدو أن السعودية، وبعد صدمة الأيام الأولى وما تلاها من تحركات لوضع قادة البلاد في دائرة الإتهام المباشر، استكانت للتململ الذي صار واضحا في مواقف بعض عواصم القرار التي اصطف بعض منها وراء تخريجات دونالد ترمب التبريرية. 

تراجعات دولية
 
من فرنسا كانت الضربة الأولى. فبعد أن اختفت باريس عن الأضواء طوال الأيام الأولى معرضة عن الإعلان عن أي موقف خشية على مصالحها، ظهر وزير خارجيتها جان إيف لودريان، قبل أيام، ليوجه الاتهامات للرئيس التركي بدعوى أن الأخير يلعب في القضية لعبته الخاصة، بدل الضغط على القتلة لتجلية الحقيقة وإحقاق عدالة كانت باريس تدعي دوما الدفاع عنها انسجاما مع مبادئ الثورة الفرنسية. ولعل في التمعن في الرد التركي الذي اعتبر الأمر "وقاحة" مع التأكيد بأن لا غرابة لو أنكر هؤلاء وقوع الجريمة من أساسها بالرغم من اعتراف السعودية بها، مشككا في وجود صفقات من تحت الطاولة يتم الترتيب لها. فرنسا التي تدخلت لإخراج المواطن الفرنسي رفيق الحريري من معتقله السعودي قبل أشهر تعرف أكثر من أي دولة أخرى مقدار الحماقة التي قد يقدم عليها المسؤولون السعوديون ضد المعارضين. لكنها أبت إلا أن تتحول هي الأخرى إلى محام للشيطان يخفي "عجزه" أو عدم رغبته في الازعاج وراء ضرورة تبلور موقف أوربي أو دولي متكامل للانضمام إليه.

ما نشهده من تراجعات في المواقف الدولية، غير بعض الاستنكار المحتشم أو القرارات غير الملزمة للحكومات، لم يكن وليد اليوم بل هو استمرار للتواطؤ مع المستبدين. 

في مصر، شهد العالم قبل سنوات على جريمة قتل جماعي صورتها الكاميرات ونقلتها الشاشات في ميدان رابعة. لكن الآمر بالقتل استقبل في العواصم الغربية "بطلا" سُمِح له بالمتاجرة بدماء الأبرياء تحت ذريعة مواجهة الإرهاب. أما التوجه الاستبدادي في السعودية فقد تحول لدى الغرب إلى سعي للإنفتاح والانعتاق من تشدد الحكم الديني. اعتقال الدعاة والحقوقيين والناشطات لم يكن مدعاة لإصدار بيانات التنديد. وعندما تجرأ سفير كندا بالمملكة بالتعبير على استيائه تُرِكت كندا في مواجهة "إجراءات إنتقامية" من السجانين. 

سياسة التجبر طالت دول الجوار تهديدا أو ترغيبا لدرجة حصار بلد جار بدعوى دعم الإرهاب، أو إعلان حرب عسكرية، باسم تحالف عربي غير موجود في واقع الأمر، وحصار اقتصادي خانق لليمنيين دون قدرة المجتمع الدولي على حلحلة الأزمتين حتى اليوم.

السماح بكل تلك الانتهاكات يجعل أصحابها في خانة المشاركين فيما تسميه السعودية "شجارا" ويعتبرها القانون الدولي أفعالا ترقى لجرائم ضد الإنسانية.

ما نشهده من تراجعات في المواقف الدولية، غير بعض الاستنكار المحتشم أو القرارات غير الملزمة للحكومات، لم يكن وليد اليوم بل هو استمرار للتواطؤ مع المستبدين.

نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان لم تكن يوما مطمحا غربيا بل مجرد سلاح مسلط على رقاب أنظمة حكم عربية وعالمثالثية سعت للاستقلال الوطني، لكنها اتخذت الاستبداد السياسي وسيلة ما أضعف موقفها الداخلي والخارجي. 

تركيا ليست من طينة تلك الأنظمة وتملك من الأوراق ما قد يمكن من الوصول إلى الحقيقة يوما ما.

 

التسريبات المنتظرة بعد البيان السعودي ستحدد مسودة البيان القادم وهو ما يضع على النظام التركي مسؤولية كبرى في إجلاء الحقائق والقطع مع وتيرة الكشف المتدرج، بما يمنحه للسعودية ومحامييها المشاركين بالفعل والدعم والصمت المريب في "شجارات" كثيرة ارتكبتها المملكة في كثير من المحطات والمواقع المغلق منها والمفتوح. 

يعتبر وزير الخارجية السعودي عادل الجبير أن تسييس قضية خاشقجي يساهم في شق صف العالم الإسلامي والمملكة تسعى لوحدته. نسي الجبير أن يضيف أن دولته تسعى لوحدته "تحت المنشار".

السعودية ليست وحدها تحت الضغط بل الأتراك أيضا. والأكيد أن الرسالة تبقى: أخبروا سيدكم أن المهمة لم تنته بعد...

في انتظار التسريبات التركية القادمة.

 

اقرأ أيضا: الجبير: قتل خاشقجي جريمة وتدويلها أمر مرفوض

 

التعليقات (1)
ما هذا الضعف يا تركيا؟
الخميس، 15-11-2018 07:47 م
دائماً ما اتسمت مواقف تركيا إزاء السعودية بشأن هذه الجريمة البشعة بالضعف. وحتى أقطع الطريق على المندفعين إلى الدفاع عن موقف الحكومية التركية بالحق والباطل، فإنني أسوق مبرراتي فيما يلي، رغم حبي الكبير لأردوغان، ولكنه حب مستنير بنور العقل: 1- عدم اعتقال فريق القتل ومنع سفره من تركيا إلى السعودية يوم الجريمة، رغم أنهم مشتبه فيهم في قضية قتل وليست لهم صفة دبلوماسية. 2- سماحها بمجيئ فريق آخر لمحو الأدلة ظل يتردد على القنصلية وبيت القنصل أسبوعاً كاملاً لمحو كل دليل. 3- صبرها فترة طويلة على السعودية لكي تسمح لها بتفتيش القنصلية وبيت السفير وهو ما لم يتم إلا بعد أسبوعين كاملين في حالة القنصلة و3 أسابيع في حالة بيت القنصل، بعد أن كانوا قد محوا آثار الجريمة. 4- عدم تقديمها طلباً رسمياً إلى الإنتربول لاعتقال الفرقتين: فرقة الـ 15 أي مجموعة القتلة وفرقة إخفاء الأدلة ومعهم موظفو القنصلية المتورطون أو المتواطئون وعلى رأسهم القنصل لأن الأمر أصبح جريمة يجب أن يحاكم كل من شارك فيها حتى لو احتجوا بالحصانة في حالة القنصل، وإن كان هذا من الناحية القانونية أمراً مشكوكاً فيه. ففي حالة الجريمة، لا بد من المحاكمة والتسليم، خاصة أنه شارك في الجريمة مباشرة. 5- إعلان الرئيس التركي أنه لا يساوره شك في الملك سليمان، وهو يوقن بأن سلمان لا بد أن يعلم وإن لم يكن يعلم مسبقاً فقد علم بعد النشر عن الموضوع. وهو يريد بكل ما استطاع حماية ابنه المجرم السفاح. 6- لم يطلب الرئيس التركي تسليم المجرمين والضالعين من أجل محاكمتهم في تركيا، بل قال في البداية وكرره ثانية إنه "إن لم تستطيعوا أن تجعلوهم يعترفوا فدعوهم لنا"! ما هذا؟ 7- لم تقم تركيا بترتيب مؤتمر صحفي وإعلامي عالمي يحدث بعد الإعلان عنه بأسبوع حتى يرتقبه الجميع ويعلن فيه المدعي العام التركي كل ما لديه من تفاصيل وأدلة بحيث تصبح المسألة مسألة قضائية بحتة لا تدع لأحد من عبيد المصلحة في الغرب والشرق المجال للتملص من مسؤولياته. وأقف عند هذا الحد حتى لا أطيل.