قضايا وآراء

مفهوم صناعة الهوية (1)

إبراهيم الديب
1300x600
1300x600
نعيش عصرا جديا تصنع فيه الهويات وتتطور بشكل متسارع، لتشكل نمط حياة العالم بشكل مختلف، فما هو مفهوم صناعة الهوية؟

بإيجاز ومباشرة، هو إنتاج شيء معين بمواصفاتٍ معياريَّة محدَّدة، وبهدف الاستخدام في أغراض معينة عن طريق الاستخدام المنظّم لمجموعة من الأشياء والأدوات. كما تنقسم أنواع الصناعات إلى صناعات معنوية خاصة بالمعرفة والثقافة، وأخرى مادية خاصة بالمنتجات المادية من ماكينات وأجهزة.. إلخ. كما أنّ مستويات الصناعة تنقسم إلى صناعات أساسية صلبة، وأخرى تحويليَّة، ويقصد بالصناعة التأسيسية الصلبة؛ هي تلك الصناعات الثقيلة الكبيرة الحجم مثل: السفن والطائرات والماكينات العملاقة، ومنها أيضا البنى التأسيسية، كما في إنشاء المدن الجديدة من: تمهيد وتسوية للأرض وشق شبكات للكهرباء والتلفونات والمياه والصرف ورصف الطرق وإنشاء الجسور والأنفاق والمدن الجديدة للسكن واستقبال السكان للعيش فيها.

ووفق هذا التعريف، فإنَّ صناعة الهوية تعتبر من الصناعات المعنوية الصلبة الثقيلة التأسيسية لبناء المجتمعات والأمم الحديثة، حيث تعتبر صناعة الهوية مسؤولة عن تصميم وإنتاج وإدارة القوة البشرية للمجتمع، والتي تمثِّل الأساس لكل ما يمكن أن يتمَّ من صناعات تحويليَّة داخل المجتمع والدولة.

بواعث صناعة الهوية: لماذا صناعة الهوية؟

هل من الضروري صناعة الهوية؟ لأننا بطبيعة الحال نمتلك هوية موروثة عن الأجداد؟

تتكون هوية المجتمع من جزء صلب ثابت تتوارثه الأجيال المتتالية من جيل إلى جيل يتميز بالقوة والصلابة، تجاه حراك الأحداث المختلفة التي يمرُّ بها المجتمع. وجزء آخر أقل قوة وصلابة في ذاته وفي قوة تأثيره على أفراد المجتمع من المكوِّن الأساسي الصلب الأول، وهو مزيج نسبيٌّ من الأعراف والعادات والتقاليد، وآثار الطبيعة الجغرافية للمكان فضلا عن إنتاج وتأثير كاريزما أعلام ورموز المجتمع، والفلكلور الشعبي، مع نمط حياة المجتمع، وكذلك الإنتاج الحضاري المتجدّد للمجتمع، وأثر الموروث المادي للمواقع الأثرية والمعمارية والمقتنيات التراثية، والمخطوطات المتوارثة من الأجداد، والإنتاج الحضاري المادي؛ من عمار وتكنولوجيا ومخترعات وإنجازات على شخصية المجتمع.

وهنا لا بد أن نؤكد هنا على عدة حقائق أساسية:

1- إن هذه المكونات ليست ثابتة في كل زمان ومكان، فهي مكونات نسبيَّة تختلف من مجتمع إلى مجتمع، وتتفاعل مع بعضها البعض، ومع المتغيِّرات المحليَّة والإقليمية والعالمية المحيطة بها، ومع ما يعتريها من أحداث، لذا يمكننا طرح معادلة تشكِّل الهوية بشيء من التفصيل والبيان الرياضي.

2- تتباين الأهمية النسبيَّة لكل عنصر من العناصر في كل مجتمع؛ عن بقية المجتمعات ومن وقت لآخر.

3- تتباين الطبيعة الخاصة لكل جيل عن الجيل السابق له.

4- لتغيّر الموازين العالميَّة وما يتبعه من أحداث سلمية وحربية؛ تداعيات مهمة جدّا على تشكيل هوية المجتمع، بحسب مدى تأثّر المجتمع بهذه الأحداث.

5ـ- الهوية: كائنٌ حيٌّ يتفاعل مع عالمه الذي يعيش فيه يؤثر فيه ويتأثر به.

الهوية  = نتاج تفاعل (المكون الصلب للهوية + المكونات التكميليَّة المرنة × الحراك المجتمعي الداخلي × الحراك الإقليمي والعالمي × الطبيعة الخاصة لكل جيل).

وهناك العديد من الاعتبارات منها:

- سنّة التنوُّع الخالدة.. فقد ثبت تاريخيّا وعمليّا أن حجم التنوع يؤدي لوجود الكم الهائل من الأفكار التي يتلاقح بعضها مع البعض، وبالتالي يؤدي إلى إنتاج الأفكار المتجددة.

- حاجة المجتمعات المحلية إلى الوحدة والاحتشاد، وتعزيز الاستقرار المجتمعي، كأساس للتنمية.

- تهديدات وهواجس ضعف وتفكك وتلاشي الهويات، والحافزية الفطريّة للمحافظة على البقاء والنمو...

- قانون تمدّد القوّة وحاجته لمساحات واسعة جديد يتمدّد فيها، ومن ثم يتحول من قوة محلية إلى إقليمية ثم دولية.

- نمو وتطوّر فكرة صراع الهويات عبر تطور محطات الصراع البشرى المتتالية ،وتراكم ونمو الرصيد البشرى من مفاهيم وخبرات آليات وأدوات هذا النوع من الصراع.

- ما تواجهه الهويات المحلية وبخاصة الدول الضعيفة، من تحديات الاختراق الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، وصولا إلى التفكيك والاستقطاب وتهديد الاستقرار السياسي المحلي والإقليمي لحساب أجندات خارجية لدول كبرى طامعة.

- النموذج الأمريكي ومحاولة السيطرة على العالم، ومحاولات فرض هويّة العولمة على حساب الهويات المحلية، وحاجة المجتمعات المحلية إلى تعزيز قوة وصلابة هويتها، ومناعتها الذاتية ضدّ هذا التهديد الأمريكي الوافد بقوّة.

- التنافس الحضاري وتعزيز القدرات الذاتية للابتعاث الحضاري في نفوس للشعوب، وتنافس الأمم في تعظيم قدراتها وقوتها البشرية.

كل ذلك يؤكّد على أهمية التجديد والتطوير المستمرّ في صناعة الهوية، هذا بطبيعة الحال في الدول التي تمتلك مشروعا للهوية، والأمر أكثر إلحاحا في الدول التي لا تمتلك مشروعا للهوية، مما يجعلها ميدانا مفتوحا لتمدّد الهويات الأخرى.
التعليقات (0)