مقالات مختارة

صناعة بشرية بامتياز

حسين الرواشدة
1300x600
1300x600

لو سألتني ماذا يملك نحو مليارين من العرب والمسلمين اليوم أمام مشاهد القتل والدم التي تصدمنا؟ حيث الأخ يقتل أخاه ثم يستأجر الآخرين للإجهاز عليه، لأجبتك دون تردد: لا يملكون مع هذا العجز والحسرة سوى الدعاء فقط. 


في خطبة الجمعة، وكذلك في الخطب و«البوستات» التي نقرؤها على وسائل التواصل الاجتماعي، نجد صوتا واحدا يدعونا إلى استخدام «السلاح» الوحيد الذي نملكه، فنردد ما قاله مولانا الشيخ: اللهم إنا لا نملك غير «الدعاء» فأنزل علينا نصرك الذي وعدت.


حين تدقق في نسختي الدعاء، سواء أكانت دينية أو سياسية، تكتشف بأنهما مغشوشتان أحيانا، فالله تعالى أمرنا بالدعاء ووعدنا بالنصر، ليس باعتبارنا مسلمين فقط، ولا مظلومين أيضا، وإنما قرن الأمر والوعظ بشروط «العمل» والحركة وبذل الجهد والقيام بالواجب، فالوعد «بالنصر» مثلا ليس شيكا على بياض يعبئه المسلمون متى شاءوا ومتى أرادوا، وإما هو «شيك» يحتاج إلى رصيد يملؤونه هم بالعمل والتعب والإخلاص، وعندئذ يمكن أن يسحبوا منه، وقديما قال علي بن أبي طالب للرجل الذي اشتكى إليه مرض ناقته بالجرب، وأخبره بأنه لم يمل من الدعاء لها بالشفاء: «هلا جعلت من دعائك شيئا من القطران».


إذا تجاوزنا دعاء مولانا الإمام، فان دعاء مولانا «السياسي» يحتاج أيضا إلى «شيء من القطران»، ولدينا في العمل السياسي أصناف متعددة من «القطران»، خذ مثلا صنف المساءلة، وصنف المحاسبة، وصنف الرقابة الحقيقية، والتشريع الصحيح، والنظافة السياسية، وتمثيل إرادة الناس ومطالبهم بعيدا عن منطق الحسابات الشخصية وغيرها.


وهذه الأصناف من «القطران» موجودة أيضا لدى المجتمع الذي ينتظر «الفرج» دون أن يفعل ما تقتضيه لحظة ولادة «الفرج»، ومن السذاجة (آسف) أن يتصور أحدنا بأن السماء تمطر «إصلاحا»، وبأن الدعاء وحده سيكشف «ملفات» الفاسدين، وسيرفع الغلاء وينهي «الوباء» لأن ذلك لا يتحقق إلا بإرادة البشر أولا، وبحركة المجتمع نحو إصلاح نفسه وأخلاقه ثانيا، فإذا ما نهض الناس بهذه المهمة، وتوافقت أفعالهم مع قوانين الكون الحاكمة التي لا تحابي بشرا -مهما كان دينهم- على حساب بشر آخرين، تلاقت إرادة الأرض مع وعد السماء، وتطابقت إرادة الاستجابة مع إرادة الطلب والدعاء.


فرق كبير بين أولئك الذين دفعتهم انجازاتهم وانتصاراتهم إلى البكاء فرحا أو الابتهال والدعاء شكرا، وبين شعوبنا التي دفعها الشعور بالعجز وقلة الحيلة والظلم والاستعباد، أو اضطرتها مآسي الحروب والصراعات إلى الدعاء والتوسل أو البكاء والندب وشق الجيوب، أولئك قاموا بواجبهم على الأرض في بناء الحياة ونهضوا بمسؤوليتهم، ثم جلسوا للدعاء أو البكاء لاستئناف هذا الواجب وإتمامه، أما نحن فقد خنقنا العجز والقتل والخوف والتخلف، واستفزعتنا دعوات «النعي» التي انتشرت حولنا، ولم يسعفنا تفكيرنا في الخروج من المقبرة التي أقمنا بين كوابيسها ودفنّا فيها عقولنا، فاستسلمنا لموجات طويلة من البكاء، حتى أعمت الدموع عيوننا عن رؤية حاضرنا ومستقبلنا، ثم لم نجد غير الدعاء للهروب إلى الغيب، أو «إبراء» الذمة بعد الإحساس بالعجز وقلة الحيلة وانسداد أبواب «الأمل»!


باختصار، التغيير والإصلاح من «صنع البشر»، والمعجزات انتهت مع انقطاع الوحي وانتهاء «النبوة»، وأخشى ما أخشاه أن يكون دعاء بعضنا مجرد هروب إلى الغيب، أو «إبراء» للذمة بعد الإحساس بالعجز وقلة الحيلة وانسداد أبواب «الأمل»!


نعم، «ادعوني أستجب لكم» صدق الله تعالى، ولكن ادعوني بالعمل لا بمجرد الكلام فقط!

عن صحيفة الدستور الأردنية

0
التعليقات (0)