كتب

المُباحيّة الشرعية.. كيف يتعافى العربي من "الشقاء الجنسي"؟

كتالب
كتالب
يتصدى الكاتب الصحفي الأردني، حلمي الأسمر في كتابه الموسوم بـ"المباحية الشرعية.. نظرات في الحرمان العاطفي والشقاء الجنسي" الصادر حديثا عن دار (الآن ناشرون وموزعون)، لمعالجة قضية يتحاشى الكثيرون الحديث العلني عنها مع حضورها الطاغي في حياتنا، وتأثيرها البالغ على فاعلية الإنسان وإنتاجه الشخصي والمجتمعي.  

واللافت في معالجة الأسمر لقضية "الحرمان العاطفي والشقاء الجنسي" بحسب توصيفه لها، التي يعاني منها المجتمع الشرقي، أنها لا تقارب تلك القضية باعتبارها مشكلة جزئية معزولة، بل تصفها بشكل صارم على أنها "من أهم معوّقات تقدم المجتمع وازدهاره، لأن الإنسان الذي لا يشعر بالإشباع المطلوب لحاجاته الأساسية، لا يستطيع أن يبدع في أي مجال، وسيظل أسيرا لهذه الحاجات، والجنس في حياة البشر شأنه شأن الطعام والشراب".

قل من يتفطن إلى مدى تأثير الحرمان العاطفي و"الشقاء الجنسي"، على تشكيل الإنسان السوي، القادر على أن يكون إنسانا فاعلا في الحياة، له من أصدق الأسماء (الحارث والهمام) بحسب الوصف الوارد في حديث نبوي حسن حظ وافر، فالحارث الكاسب العامل، والهمام الكثير الهمّ، وهو مبدأ الإرادة، إذ إن حاجة الإنسان إلى الجنس مسألة غريزية مركوزة فيه، لا يستطيع الانفكاك عن متطلباتها وجواذبها بحال.

المباحية الجنسية في الإسلام

أشار المؤلف في سياق توضيح استخدامه للمصطلح الجديد "المباحية" في عنوان كتابه، إلى أن "القواميس العربية كلها تكاد تتفق على المعنى السلبي القبيح لكلمة "إباحية" لغة واصطلاحا، وهنا تحديدا تقع الصدمة الأولى حينما تقع عين القارئ على الربط بين ما يبدو أنهما متناقضان: "إباحية وإسلام" مؤكدا أن القارئ "معه الحق كله في أن يرفع حاجبيه استغرابا"، ومعللا أن ما دفعه إلى هذا الربط المستهجن، هو عدم وجود لفظ آخر دال عليه، أو قريب منه غيره، مع أن اللفظ المقصود فعلا هنا هو "المُباحِيَّة" وهو مصطلح جديد غير موجود في القاموس العربي، اضطر لاستعماله بديلا عن لفظ الإباحية.

يتساءل الكاتب: هل هناك إباحية يمكن أن توصف بأنها "شرعية"؟ ونظرا لأن السؤال في ذاته يعد مستهجنا فقد قرر أن نسبة الشرعية للإباحية فيه اعتساف وتجن على المصطلح، لكن لاعتبارات افتراضية محضة فقد دعا القراء "لهضم" هذه النسبة ولو مؤقتا، لافتا إلى أن الفكرة بدأت لديه حينما استمع للدكتور شرف القضاة المتخصص في علوم الشريعة الإسلامية، وهو يتحدث عبر إذاعة أردنية محلية تدعى "حياة إف إم" عن أهمية تخفيض سن الزواج للشاب والفتاة، بحيث يزوجهما الأهل وهما على مقاعد الدراسة، ويعيشان زوجين في مكان واحد، أو ربما بين أهلهما، ويذهبان إلى المدرسة سويا، والجامعة في ما بعد، شريطة ألا يعمدا إلى الإنجاب إلا بعد أن يتمكنا من تكوين نفسيهما والقدرة على أن "يصرفا" على شخص ثالث.

وتابع الكاتب سرد فكرة الدكتور القضاة بقوله: "والهدف من هذا، أن يمارس الشاب والشابة حياتهما بكامل نصابها دون شقاء عاطفي أو جنسي، واستشهد القضاة في هذا السياق بما يحدث في الغرب، حيث تبدأ حياة الذكر والأنثى (بكامل نصابها) منذ أن يصل الطرفان إلى مرحلة البلوغ بسبب الحرية الجنسية المتاحة في بلاد الفرنجة، في حين أن حياة أهل الشرق إما أن تبدأ في سن متأخرة جدا، أو لا تبدأ أبدا، وأرقام من حرمن وحرموا من الزواج تشهد على ذلك، وكي لا يضطر الشاب أو الشابة للعيش في حرمان مقيم، أو اللجوء إلى طرق ملتوية في الإشباع الجنسي، جاء اقتراح التزويج المبكر، فلا حل لهذا الشقاء إلا بالوصل، ولا يباح الوصل في ديننا وعاداتنا إلا بالزواج".

الكاتب الأسمر وصف اقتراح الدكتور القضاة بأن "له وجاهة كبيرة" فهو (وكثيرون غيره)، يعتقدون أن علينا أن نطوي الملف الاجتماعي في حياة الشباب قبل أن نبحث لهم عن فرص عمل، وهذا الملف تحديدا يحتل ذيل سلم أولوياتنا، بعده إما عيبا أو ترفا، علما أن حل المشكل الاجتماعي في حياة الشباب يحولهم إلى بشر مبدعين، وبتعبير أكثر وضوحا، لا بد من حل مشكلة "الشقاء الجنسي" في حياة الشباب قبل أن/ أو بالتوازي مع إدخالهم إلى سوق العمل".

ويواصل المؤلف تعليله لرأيه بقوله "فالشاب الجائع لا يمكن أن يفكر بالإبداع، كما أن الشاب غير المستقر عاطفيا شخص مستلب ومتوتر، ولا يمكنه إلا تشغيل جزء يسير من "خطوط إنتاجه" كي يكون عنصرا مفيدا في عملية التنمية"، إن هذا الرأي الذي يطرحه المؤلف يستحق نقاشا مستفيضا من أهل الاختصاص في الحقل الاجتماعي، لا سيما بعد إشارته إلى "إغفال كثير من البحوث لهذا العنصر الخطير"، وإبداء دهشته من أن "أحدا من الخبراء نادرا ما يتطرق إلى هذا الجانب في حياة الشباب، علما بأن هذا الملف يشغل بال جميع من أدركوا سن النضج، ولم يتمكنوا من إشباع رغباتهم بشكل سوي".

نحو ثقافة جنسية راشدة

يركز المؤلف في مجمل مقالات كتابه على ضرورة تغيير النسق الفكري السائد في التعامل مع الحاجات الجنسية الطبيعية، ويحث على ضرورة اقتحام هذا "التابو" المغلق، وإعطائه ولو جزءا من اهتمامنا كبالغين كبار، كي نتحول بمجتمعنا بمجمله إلى مجتمع سوي يعيش حياته باستقامة واستقرار، وإشباع جسدي وروحي على حد سواء، ضمن محددات الشرع والعادات والتقاليد، ودون أن نجترئ على أي من قيمنا السامية".

ولأن المؤلف يدرك تماما العقلية الحاكمة والموجهة في الشرق، فإنه يصف "الخوض في ملف الحياة الجنسية في الشرق بالمحفوف بالمخاطر، ويشبه في أحسن حالاته المشي في حقل من الألغام، لأن ظلال هذا الاصطلاح مشوب بالسرية والتحفظ والخطيئة والكبت والمحرم، ولكنه جزء خطير من حياتنا، ولم يكن في يوم من الأيام يسبب مشكلة في تاريخنا الإسلامي، لأنه لم تكن ثمة مشكلة كبت ولا حرمان، ولا شقاء جنسي، مذكرا بقصة سعيد بن المسيب حينما علم بوفاة زوجة أحد تلاميذه، وانقطاعه عن حضور درسه لذلك السبب، فما كان من سعيد إلا أن زوجه ابنته من ليلته، قائلا له إنه كره له أن ينام ليلته وحيدا.

يدعو المؤلف إلى ضرورة التعامل بتسامح أكثر مع الثقافة الجنسية، شأنها شأن أي ثقافة صحية، في قالب نظيف من الأخلاق والأدب الرفيع الذي علمنا إياه نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه، ومن تبعه من الصحابة والتابعين والعلماء الأجلاء، الذين ألفوا الكتب والمجلدات في حياة الرجل والمرأة، وأفاضوا في شرح طرق ووسائل الاتصال، مستلهمين في ذلك الأدب النبوي الرفيع، الذي لم يترك شيئا في حياة الرجل والمرأة إلا وعلمنا إياه بشكل مجمل، فيما جاءت كوكبة من العلماء والفقهاء من بعده ليفيضوا في تناول هذه الحياة في أدق خصوصياتها، وليكتبوا أبحاثا متخصصة في ذلك".

وينتقد الكاتب تلك النظرة السائدة في المشرق التي تعد الحديث في تلك الملفات والقضايا من "أمور العيب وربما المحرم، باعتبار أن هذا الأمر ليس من ضمن سلم أولويات الأمة، مع أنه في رأس هذا السلم، فأمة يعيش شبابها وبناتها في حرمان وكبت، وأزواج لا يعرفون كيف يعيشون حياتهم الخاصة بسعادة وهناء، لا يمكن لها أن تناجز عدوا، ولا أن تبدع اقتصادا، ولا اختراعا، ولا يمكن لها أن تنظم سلم أولوياتها كله.

تضمن كتاب المباحية الشرعية رصدا ومتابعة وتحليلا لكثير من المشاكل الاجتماعية المنتشرة والمتفشية في مجتمعاتنا، كالتحرش، والعنوسة، واغتصاب الزوجات، وإشكالية التعدد، والطلاق العاطفي، وفتور العلاقة والعاطفة بين الزوجين، وازدياد الخلافات بينهما وربما القطيعة والطلاق، وجرائم الشرف، والثأر للشرف، وظهور أنواع وأشكال جديدة للزواج مثل المسيار والمصياف، والوناسة والمؤقت، فضلا عن زواج "المتعة".

إن إثارة هذه القضايا والتركيز عليها ليس من باب الحديث عن الموضوعات الأكثر إثارة وجاذبية، بل ناتج عن قناعة لدى المؤلف تقول بأن "الحرمان العاطفي" وما يتبعه من "شقاء جنسي"، يمنع الإنسان من أن يمضي في حياته بشكل سليم، ويشغله بالبحث عن وسائل لإشباع هذه الحاجات الضرورية الأساسية الفطرية، وما لم تُشبع هذه الحاجات، فإن الفرد لا يستطيع أن يرتقي إلى أعلى منها، إلا بشكل مشوّه وقاصر وربما فاسد، ولن يؤدي دوره المنشود كفرد صالح منتج مبدع من أفراد المجتمع، ولذا لا نعجب من تخلف مجتمعاتنا وفشلها في كل محاولات ومشاريع الإصلاح والتطوير في جميع المجالات، فالجائع ذاهل عن كل ما يشبع معدته، وكذا المحروم عاطفيا، الذي يقود بالضرورة إلى الشقاء الجنسي.  
0
التعليقات (0)